دقَّ خريف العمر أبوابه باكرًا، وكُسرت عصا الذكريات التي أتوكأ عليها، اغتالت الخفافيش أميرة الحكاية منذُ ولادتها. كنتُ ضيفةً ثقيلة على هذا العالم ولم تفرح الدنيا بقدومي، ترجَّلت عن صهوة الأمل بمحاولة بائسة للانتحار لأدفنَ واقعي المُوجع وأشيِّع حاضري القسري؟! فيا ترى من سيبكيني؟ ومَن سيحمل كفَني؟ ومَن سيُوجعه رحيلي؟ تركوني لرحمة الشوارع الموحشة، وسياط مُجتمع أقسى من الجلَّاد، أحرقوا مساحات قَلْبي البيضاء بوجودي كطفلةٍ مجهولة النَّسب بمتاهة تقصم ظهري وتهشِّم أشلائي بماضٍ لم أذنب فيه، طوَّقتني دوائر اليأس، وأدمنتُ التحليق في اللاشيء، بحكاية بصقتني منذُ نعومة أظافري على رصيف الحياة.
سيستغرب مَن يرى جثَّتي وسيحاول معرفة مَن أكون؟؟ ابنة مَن هي المُتوَفَّاة ومَن تكُونُ؟ قد يندهش عندما يعرف بأنَّني لا أحَد!! فعلًا لا أعرف مَن أكون!؟ أنا ابنة الخطيئة ولا أدري أيَّ رحمٍ حملني؟!! وأيَّ دماء تجري في أوصالي؟!! أنا ابنة الطَّريق لن يبكيَني أحَد ولن يتذكَّرني أحَد، رحيلي لن يهزَّ شعرةً من هذا العالم... أتيتُ مجهولةَ النَّسب... وهكذا سيُدوَّن على كفَني مجهولة الهُوِيَّة، ولن يذكرَني أحَد!!
ما أعرفُه عن تاريخي أنَّني ثمرة للحظاتِ الشيطان في ليلة غابرة، غباء امرأة وانجراف ذكر لم يرتقِ لشجاعة الرجال بشهوةٍ عابرة، لم تفرح بنبضاتي أُمِّي وحملتني في أحشائها همًّا على همٍّ حين تركَها أبي مهرولًا، لا أملك القدرة حتى لأتخيلَ شكلَ أُمِّي أو أتوجَّس مشاعر أبي ولا أعْلَم إنْ كان يعْلَم بوجودي أصلًا فأنا أكرههما... باعاني بثمنٍ بخسٍ لدفنِ عارهما وانكفأتُ على وجهي على ضفاف الأسى والمعاناة.
كيف لم يرقَّ قَلْبُها عندما تركتني في زمهرير البرد، كان الشارع خاويًا عدا من الكلاب الضالَّة وبعض المتسكعين... سمع أحَدهم صراخي ليأخذَني لأقرب مركز شُرطة ومنها إلى بيتي الذي لا أعرف غيره، ملجأ الأطفال ما يجمِّلونه باسمِ دار الرعاية، هناك اختاروا لي اسم فرح، لم يشبهني يومًا تذوَّقت كُلَّ عثرات الحياة إلَّا ما يتَّصف به اسمي وأرتني الدنيا مختلف معانيها، إلَّا ذاك المكتوب على سجلِّي المَدَني.
لا يتذكر أحَد شيئًا من طفولتي متى خطوت أوَّل خطوة؟!! ومتى ظهرت لي أسنان؟!! وما أوَّل كلمة نطقتُها؟؟! نحن المنسيُّون في سجلِّ اللقطاء، أرقام في ملفات الدُّور الاجتماعيَّة فئران تجارب وبيانات خصبة للأبحاث النَّفسيَّة، ربَّتني عشرون أُمًّا كلُّهنَّ مستأجرات، لم أحظَ بواحدة حقيقيَّة، كنتُ أتسوَّلهنَّ الحُب والحنان، يتغيَّرن بالسنوات تأتي مُربية وأتَّخذها أُمًّا لي وتغادر وتسرق جزءًا من قَلْبي الواهن، فلم أثقْ يومًا بحُب مربية خوفًا من ذهابها وفقدانها.
لن تشعروا بي لأنَّكم أبناء حسَبٍ ونسبٍ وجذور وأنا ابنة الشَّك والريبة، ابنة اللامكان ابنة الخطَّائين... ابنة الفضيحة والعار هذا كُلُّ ما أعرفه عن أهلي، وأنَّ قدومي سبب دمار فتخلَّصوا منِّي كمضغةِ لحمٍ رخيصة ستردم ما إن نهشتها كلاب الطريق..
لا أعْلَمُ من ماضٍ إلَّا ذاك الرجل غريب الأطوار الذي وجدني بالطريق، وأماط اللثام عن وجهي ساعة العثور عليَّ أكنُّ له كُلَّ مشاعر الحُب، وكلَّما جاء لزيارتي ليتذكرَ إحسانه، أهرع إليه بقلبٍ يملؤه الشَّغف وأناديه أبي، يمتعض ولا يعجبه ذلك، فأسكت وأعودُ أطلب منه أن يصفَ المرأة التي تركتني في الطريق ليخبرَني بأنَّها كانت ترتدي شالًا أرجوانيًّا وتحمل حقيبة باللون النِّيلي الدَّاكن، ومن يومها كلَّما رأيتُ امرأة بنَفْسِ المواصفات ينكسر قلبي وتتهشَّم مشاعري بأنَّها قد تكُونُ أُمِّي.
لا أُخفيكم سرًّا بأنَّني رسمتُ لها وجْهًا في خيالي.. أُمِّي وإن أتتْ بي كخطيئةٍ تعزف لي الموشَّحات على طبقٍ من نُور القمر، أنا أحببتُها من قَلْبي بمشاعر دفَّاقة أتحسَّس ملامحها وإن لم أرَها يومًا وأستشعر دفئها وإن لم أحتضنها، وتخيلتُ أيضًا ملامح أبي بشعرٍ يغزوه الشَّيب يشعر بالنَّدم ويغدقني بترانيم الفراشات... أنا أحبُّهما وسامحتهما ودعوتُ الله في سرِّي لهما بالمغفرة، وأنْ يحفظَهما وأن لا يؤاخذَهما على الخطيئة التي هي أنا!!
د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية
طبيبة وكاتبة عمانية