..ويعني أهلُ التجويد بالتفشِّي في حرف الشين ما يأتي: التفشي في اللغة معناه: اتِّساعُ الشيء، وقيل: الانبثاث، والانتشار، يقال: تفشَّت القُرْحَة: إذا اتسعت، وأما تعريف التفشي في الاصطلاح فهو انتشار الهواء في الفم عند النطق بحروف التفشِّي، وهو كثرة خروج الهواء بين اللسان، والحنك، وانبساطه في الخروج عند النطق به؛ حتى يتَّصل الحرفُ بمخرج غيره، ومع التنويه أنَّ صفة التفشي من صفات الحروف القويّة التي لا ضدَّ لها، وتتَّضح في الحرفِ الساكنِ أكثرَ منها في المتحرِّك، وصفة التفشِّي تتطلّب انبساط الهواء، وانتشاره، حتى يُخيَّل أنّ الحرف اتّصل بمخرج حرفٍ آخرٍ؛ لذا ذكر بعض علماء التجويد أنَّ هذه الصفة تتحقَّق في أكثر من حرفٍ، وتعدَّدت آراء العلماء على عِدَّة أقوالٍ، منها ما يأتي:
القول الأول: أنّ للتفشّي حرفًا واحدًا، وهو الشين، وهذا القول هو الأرجح، وممّا يجب التنبّه له في حرف الشين، أنَّه يخرج من المخرج الثالث من الفم، بعد الكاف، من وسط اللسان، بينه وبين وسط الحنك، وهو مهموسٌ، رخوٌ، منفتحٌ، مستفلٌ، متفشٍّ، وينبغي أن يبين التفشي الذي فيه عند النطق به، وإذا كان مُشدَّدًا فلا بدَّ من إشباع تفشّيه.
والقول الثاني: الذي قال فيه ابن مريم الشيرازي أنَّ للتفشي أربعة حروفٍ، وهي:(الميم، والشين، والفاء، والراء)، وهي حروفٌ فيها غُنَّةٌ، ونفشٌ، وتأفُّفٌ، وتكرارٌ، وقيل: لها حروف التفشّي أيضًا، وإن كان التفشّي في الشينِ خاصَّةً؛ لأنّ البقيَّة مقاربةٌ له؛ لأنّ الشين بما فيه من التفشّي ينتشر الصوتُ منه، ويتفشّى حتّى يتّصل إلى المخارج الباقية، وسبب تسمية صفة التفشي بهذا الاسم عند إطلاق التسمية على الصفات يكون لذلك اللفظ اعتباراتٌ معيَّنةٌ تعبّر عن هذه الصفة، وصفة التفشّي إنَّما سُمَّيَتْ بذلك؛ فسُمِّيَ الشينُ المُتفشِّيَ؛ لأنَّه انتشر في الفم برخاوته حتى اتّصل بمخرج الطاء، والتفشي الانتشار، وسُمِّي بذلك أيضًا؛ لاتساع مخرجه، والتفشِّي هو صفةٌ ملازمةٌ لحروفها، فلا تنفكّ عنها بحالٍ من الأحوال، وإن كانت كما قلنا: إنَّها في الساكن أوضحُ، وأظهرُ من المتحرِّك، وأمثلتها في كلمة:(اشدُد) في قوله تعالى:(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)، حيث يقول ابن جنيّ فيها: (فالشين لما فيها من التفشّي، تشبه صوتَ انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثمَّ يليه إحكامُ الشدّ والجذب)، ومثل حرف الشين في كلمة:(اشتراه) من قوله تعالى:(وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ)، وحال الوقف على حرف الشين في كلمة:(العرش) من قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ)، فلا بُدَّ من الحرص على إظهار التفشّي عند الوقف.
فكما نرى تعريفه (لغة واصطلاحًا) أنه حرفُ الانتشار، أي: انتشار الهواء في الفم عند النطق بحروف التفشي، وهو كثرة خروج الهواء بين اللسان، والحنك، وانبساطه في الخروج عند النطق به؛ حتى يتَّصل الحرف بمخرج غيره، وهذا يعني هنا في الآية أن تنتشر أعضاءُ هؤلاء الكفار في كلِّ مكان، مبعثرةً من قوة الضربة، وأثرها الْمُدَوِّي، أو أنهم ينتشرون في كل مكان هربا من قوة الضرب، والكرّ عليهم، والفر منهم حتى يملؤوا الأرض هلعًا، وجبنًا، وخوفًا، وهربًا، والتشريدُ بهم بَعْثَرَتُهُمْ في كل مكان، وهَرَبُهُم هنا، وهناك، وهنالك، كما تخرج الشين منتشرة من الفم، ومتجولة في كل أرجائه، وتخرج خارج الفم، فتملأ الهواءَ بصوتها القويِّ، المنتشرِ، المتفشِّي، ثم تأتي الراء، وهي حرف تكرار، والدال الساكنة حرفُ قلقلةٍ كأن الواحدَ من الكفار انتشرتْ أعضاؤه، وتكرِّر دكها بوساطة دلالة حرف الراء، وتعدَّد ضربُها، وعجنُها، ودعكُها، وجاءت الدال المقلقلة بقوتها، فألصقت الكافر في الجدار، أو في الأرضِ، مردِّدةً معاودة الضرب والصدام بالجدران حتى أسقطتهم، لا حراكَ فيهم، ولا نفس يتردد في صدورهم، وارتموا على الأرض لا نبض في قلوبهم، والدماء تنسكب من أفواههم، لا يرفعون طرفًا، ولا يحرِّكون ساكنا، بَدَوْا ملتصقين في الأرض، أو داخلين في الجدار من أثر قسوة الضرب، وقوته، وجبروته، وكان التشريد بكلِّ معانيه، وكاملِ مراميه.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية