القرآن الكريم مُعجِز في تراكيبه، وأساليبه، ومعجز في بِنَاه، وكلماتِه، وأساليبه، ومُعجِز كذلك في حروفه، سواء أكانت حروف مبنًى، أم حروف معنًى، وحروفُ المَبْنَى هي تلك الحروف التي يتشكل منها اللفظ، وتتكون من الكلمة، وتبنى حتى يكون لها دلالة، ومعنى، أما حروف المَعْنَى، فهي كلمة كاملة لها معنًى، يتكوَّن هو نفسُه من حروف المبنى، مثل حروف الجر(في) التي وُضِعَتْ لمعنى الظرفية في الغالب، و(على) في معنى الاستعلاء، و(عن) في معنى المجاوزة، و(مِنْ) في معنى البعضية، والجزئية، وكسائر معاني حروف الجر.
ومن أمثلة حروف التوكيد الخاصة بالجملة الاسمية، مثل: (إنَّ، أنَّ) لمعنى التوكيد، و(كأنَّ) لمعنى التشبيه، و(لكنَّ) لمعنى الاستدراك، و(لعلَّ) لمعنى الترجي، و(لَيْتَ) لمعنى التمني، ومثلها حروف النداء، فـ(الهمزة أ، وأيْ) لنداء القريب، و(أيا، وهيا) لنداء البعيد، و(يا) لنداء القريب، والبعيد معًا، وكحروف النفي، مثل:(ما) لنفي الماضي، و(لا) لنفي المستقبل، و(لن)، لتأكيد النفي على رأي أهل السنة، ولتأبيد للنفي على رأي المعتزلة، وهكذا حروف الجزم، والنصب للأفعال، وحروف الجواب: إثباتًا، ونفيًا، مثل:(نعم، وبلى، وجَيْرِ، وإِي، ولا، وما، ولن، وإنْ بمعنى ما)، نحو:(إن أنت إلا نذير)، ونحو:(وإن هو إلا وحي يوحى)، وهل كذلك بمعنى (النفي)، نحو: (فهل إلى خروج من سبيل)، ونحو:(فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا).
ونتجاوز ذلك الأمر في معاني الحروف وتقسيماتها؛ لبيان بلاغة الجانب الصوتي لحرف الشين، والذي يتساوق مع السياق، ويتناغم مع المعنى الذي جاء له، وورد لشرحه، وتوضيحه، وقوة بيانه.
ونأتي هنا ببعض النماذج القرآنية على ذلك، ومنها:يقول الله تعالى:(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الانفال ـ 57)، فهذه الآية تتحدث عن قوة المؤمن في ميدان القتال، في ساحات الوغى، وعند احتدام البأس، والوطيس، واحمرار الحُدُقِ، واشتداد الضرب، واصطكاك الأرجل، وتناظر المتحاربين، ولقاء أهل الإيمان بالكفار وجهًا لوجه، وارتفاع صوت السيوف، والكرِّ، والفرِّ، وتطايُر الرؤوس، وتصاعُد الغبار من سَنَابك الخيول التي تضرب بحوافرها الأرضَ، يمنةً، ويسرةً، أمامًا، وخلفًا، إقدامًا، وإحجامًا، أو بالمفهوم العصري، عند حصد القنابل، وسماع دانات الدبابات، وأصوات وطلقات المدافع، وضربات الطائرات الحربية في كلِّ مكان، ودَوِيِّ الأساطيلِ البحرية، ودخول الأقمار الصناعية التي تَرْصُدُ أنفاس البشر، والضربات الموجَّهة بالليزر، والطائرات المسيَّرات، ونحوها ممَّا سمعنا به تلك الأيام، فعند تلك اللحظات الحاسمات، القاسيات، القاتلات، المميتات تأتي معانِي الآيات، وكمالُ الدلالات، وسموُّ القيم، وجلالُ التكليفات.
عند ذلك كله، إذا ثَقَفَ(أي: وجد) مؤمنٌ كافرًا على الأرض، أم في طبقات الجو، أم في قاع البحار، فعليه أن يُرِيَ عدوَّه شدةَ بأسِه، وقوةَ أخذِه، وعنفوانَ جبروتِه، وواسعَ اعتقادِه، وحبه للشهادة، ولا يتركه حتى يشرِّدَه في الأرض تشريدًا، وحرف الشين هنا له قيمته، ودلالته، فهو ـ كما يقول أهل التجويد، وأهل المعاجم، وأرباب الأداء ـ(حرفُ تَفَشٍّ، وانتشار)، وهو من الحروف الشجرية (وهي حروف الجيم، والياء غير المدية، والشين)، ويضيف بعضهم الضاد، (وسُمِّيَتْ بذلك نسبة للشجرة التي هي عند مفرج الفم، أي:مُفْتَتَحه) (الرعاية لتجويد القراءة لمكي بن أبي طالب، ص :139، والنشر في القراءات العشر لابن الجزري، 1/200)، وهي كذلك تلك الحروف التي تخرج من وسط اللسان مع ما يحاذيه من اللثة العليا، بين اللسان، ووسط الحنك الأعلى، وصفاته عندهم أن فيه:(الهمس، الرخاوة، والاستفال، والانفتاح، والإصمات، والتفشي).
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية