السبت 27 يوليو 2024 م - 21 محرم 1446 هـ

لماذا جنوب إفريقيا؟

الأربعاء - 15 مايو 2024 05:27 م

د.أحمد مصطفى أحمد

40

يستغرب كثيرون لماذا تصدرت جنوب إفريقيا العالم في موقفها منذ بداية حرب التطهير العِرقي على الفلسطينيين في غزَّة للتصدِّي للاحتلال والمبادرة بالذهاب إلى محكمة العدل الدولية لإدانته، والتسجيل القانوني تاريخيًّا للمجازرِ بحقِّ الشَّعب الفلسطيني؟ صحيح أنَّ هناك بعض الدوَل في أميركا اللاتينية مِثل كولومبيا وتشيلي والبرازيل وفنزويلا التي اتَّخذت مواقف مبدئية انتصارًا للعدلِ والإنسانية، منها مَن قام بإجراءات دبلوماسية، ومنها مَن زاد عن ذلك، لكن موقف جنوب إفريقيا يبدو مميزًا جدًّا. فتلك الدوَل في أميركا الجنوبية معروفة أساسًا بانتصارها للحُرية والاستقلال في مواجهة «الاستعمار الجديد الذي تراه متمثلًا في جارها الشمالي القوي ـ الولايات المُتَّحدة». وتعاني دوَل أميركا الجنوبية في أغلبها من هذا الاستغلال الأميركي لها بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، لذا تتمايز سياساتها الخارجية دائمًا عن الموقف الأميركي. وبالتَّالي لا يستغرب أن تتخذَ تلك المواقف من العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، ليس نصرةً للحقِّ والعدلِ وحرصًا على الوقوف إلى جانب الحُرية والاستقلال فحسب، وإنما أيضًا ابتعادًا عن الموقف الأميركي الراعي للاحتلال في فلسطين.

ربَّما لا ينطبق ذلك تمامًا على جنوب إفريقيا، التي تُعَدُّ إحدى القوى الصَّاعدة في عالم ما بعد الحرب الباردة والتي تحرص على علاقات متوازنة مع الغرب والشرق على السواء. ويتطلب ذلك عدم اتخاذ مواقف حادَّة في القضايا الخلافية في السياسة الدولية تكلفها اقتصاديًّا. لكن موقف جنوب إفريقيا من الاحتلال الاستيطاني في فلسطين لا ينفصل عن تاريخ البلاد المعاصر، الذي لم تُشفَ منه تمامًا بعد رغم نهاية نظام الفصل العنصري فيها منتصف تسعينيات القرن الماضي على يد المناضل الراحل نيلسون مانديلا. ففي النصف الثاني من القرن الماضي، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يكُنْ في العالم كُلِّه أسوأ من نظامَيْنِ للفصلِ العنصري: المستوطنين البيض في جنوب إفريقيا (أغلبهم إنجليز) والاحتلال الصهيوني في فلسطين (الذي زرعه الاستعمار الإنجليزي أيضًا). ولمعرفةِ كيف أنَّ الأفارقة في الجنوب لم يخرجوا بعد من إرث المعاناة تحت الفصل العنصري، نجد أنَّه بعد ثلاثة عقود ما زالت أُسر ضحايا العنصريين البيض يطالبون بإنصافهم. وفي عام 1975، حين أصدرت الأُمم المُتَّحدة القرار (3379) باعتبار الصهيونية حركة عنصرية كان مناضلو جنوب إفريقيا وحدهم من يواجهون ـ قانونًا ـ نظام فصل عنصري يحدِّده القانون الدولي. لكن مطلع التسعينيات، وحتى قَبل نهاية الفصل العنصري في جنوب إفريقيا عام 1994 ضغطت أميركا ووافق أغلب العرب والعالم على إلغاء قرار الصهيونية عنصرية بنهاية عام 1991.

لكن تلك الإجراءات، الورقية في النهاية، لم تفتَّ من تعاضد أهل جنوب إفريقيا مع الفلسطينيين الذين تشاركوا معهم معاناة محاولات الاستعمار طمْسَ هُوِيَّتهم ونهبَ مقدراتهم وإلغاء وجودهم كشَعب. لم يكُنْ ما فعله الاستعمار في مطلع القرن الماضي في جنوب إفريقيا يختلف كثيرًا عمَّا فعله الأوروبيون قَبلها ببضعة قرون في أميركا الشمالية وأستراليا من احتلال استيطاني وتطهير عِرقي للسكَّان الأصليين والسيطرة على مقدراتهم تمامًا. وأفلح هؤلاء الأوروبيون الأولون في ذلك لأسبابٍ عديدة استعرضها المؤرِّخون، لكن في جنوب إفريقيا لم تفلح محاولة استيطان المستعمِرِين (البيض) لها لمقاومةِ شَعبها وإصراره على حقِّه. وهو ما يميِّز أيضًا النِّضال الفلسطيني بشتَّى أشكاله على مرِّ العقود، بغَضِّ النظر عن اتفاقك مع توَجُّه ذلك النضال أم لا؟ فرغم ملايين اللاجئين الذين هجِّروا من أرضهم، فضلًا عن مئات الآلاف ممَّن ذُبحوا على يد الجماعات الصهيونية الإرهابية، لم يستطع الاحتلال ـ حتى الآن على الأقل ـ محْوَ الهُوِيَّة الفلسطينية كما فعل المستوطنون الأوروبيون مع الهنود الحمر أو الأبورجين. كان نضال الأفارقة المتصل ضدَّ محاولات العنصريين البيض ملهِمًا لحركات تحرر مُهِمَّة. على سبيل المثال، بدأ مهندس غاندي (المهاتما) نضاله ضدَّ التمييز واستخدام الاحتجاج السِّلمي ضدَّ الاحتلال مطلع القرن الماضي في جنوب إفريقيا التي قضى فيها عقديْنِ وأسَّس فيها عائلته قَبل العودة إلى الهند وقيادة بلاده نحو الاستقلال عن الاستعمار البريطاني.

موقف جنوب إفريقيا من مجازر الاحتلال بحقِّ الفلسطينيين ليس إلا استمرارًا لنضالٍ يرَونه كتمل بعد، طالما ما زال هناك فصل عنصر، وطالما أنَّ المستعمِر (الأوروبي) ما زال يسعى لإلغاء شَعب وسلبِ وطنِه لصالحِ جماعات صهيونية. وكما كانت جنوب إفريقيا حاضنة لمهاتما غاندي ونضاله ضدَّ الاستعمار، كانت أيضًا مفرخة لعنصريين وصهاينة ما زال العالم يعاني منهم حتى الآن. مثال من هنا، رائيل بريفرمان زوج وزيرة الداخلية البريطانية التي أقيلت لمواقفِها العنصرية. فهو صهيوني متعصب من جنوب إفريقيا، وإن انتقلت عائلته إلى بريطانيا بعد نهاية نظام الفصل العنصري. لكُلِّ ذلك ليس مستغربًا أن تجدَ جنوب إفريقيا ـ الإفريقية ما بعد العنصرية الاستعمارية ـ تتقدم على الجميع بمَن فيهم العرب للوقوف بِوَجْه وحشية الاحتلال في فلسطين. فالأفارقة في الجنوب لا يفعلون ذلك من أجْلِ علاقاتهم العربية، رغم ما يُمكِن أن يخسروه من وقوف أميركي ـ أوروبي ضدَّهم اقتصاديًّا ولا حتى من أجْلِ أيِّ عائد من أيِّ نَوْع. إنَّما هو استمرار لموقفٍ نضالي ضدَّ الفصل العنصري، وتمسُّك بقِيَم إنسانية أصيلة عَبَّرَ عنها مهاتما غاندي ونيلسون مانديلا.

د.أحمد مصطفى أحمد

كاتب صحفي مصري