السبت 18 مايو 2024 م - 10 ذو القعدة 1445 هـ

في العمق : تسريح القوى العاملة الوطنية .. تدني محفزات الحماية والأجور أم غياب السياسات الضبطية والرقابية على منشآت القطاع الخاص؟

في العمق : تسريح القوى العاملة الوطنية .. تدني محفزات الحماية والأجور أم غياب السياسات الضبطية والرقابية على منشآت القطاع الخاص؟
السبت - 04 مايو 2024 05:01 م

د.رجب بن علي العويسي

60

أشار التقرير السنوي للاتحاد العام لعمَّال سلطنة عُمان لعام 2023 إلى أنَّ عدد العمَّال العُمانيين الذين تمَّ إخطارهم بإنهاء خدماتهم أو تسريحهم جماعيًّا في عام 2023 وحدها بلغ (3997) عاملًا من (51) منشأة، كما أنَّ استمرار عملية التسريح رغم تحسُّن الظروف الاقتصادية واستمرار الحوافز المقدَّمة للقِطاع الخاص، في ظلِّ تعافي أسواق النفط العالمية، يطرح الكثير من علامات الاستفهام، فمن جهة يُمثِّل الرقم الصعب الذي بات يُشكِّله أعداد المسرَّحين سنويًّا تحدِّيًا كبيرًا على الحكومة والمنظومة الاقتصادية ومنظومة الحماية الاجتماعية والمنظومات الأمنية الأخرى، خصوصًا في ظل ما ارتبط بهذا التسريح من قناعات لدى منشآت القِطاع الخاص بأنَّ الخلاص من القوى الوطنية بتسريحها، وأنَّ التسريح هو البديل الأقوى في تجاوز محنتها الاقتصادية، دون جهد منها في الوقوف على واقع التحدِّي وعَيْن المُشْكلة، وتعديل أوضاعها، وتصحيح ممارساتها وضبط إجراءات عملها، أو تطوير آليَّاتها وأدواتها، أو إعادة هيكلة مواردها، وتجديد الكفاءة الإدارية فيها، والوقوف على أسباب الفشل او الإخفاق، والعوامل التي أدَّت بها إلى الإفلاس أو الإغلاق، بل لم تحاول أن تعيدَ هيكلة خطوط إنتاجها والتسويق لبرامجها وإدخال التقنيات الحديثة المعززة لفرص جودة الإنتاج والمنافسة، لِتجدَ في تسريح القوى العاملة الوطنية الخيار السهل الممتنع لها.

عليه، يطرح ملف تسريح العُمانيين من القِطاع الخاص على منظومة العمل الوطني والمشهد الاقتصادي والاجتماعي التنموي اليوم تحدِّيات كبيرة، ويستدعي معالجات نوعية مبتكرة تتجاوز الأفكار السطحية والحلول المقتضبة إلى تبنِّي سياسات تنموية أكثر ابتكارية واستدامة ومهنية في احتواء الواقع وإعادة تصحيحه، وتعزيز مسار الاستدامة في الوظائف بحيث تصبح الموجهات التي اعتمدتها وزارة العمل من حيث أنماط العمل؛ باعتبارها محطَّات أولوية للوصول إلى وظائف أكثر استدامة وقدرة على ضمان استيعاب الكفاءة العُمانية في منشآت القِطاع الخاص، مع تبنِّي سياسات رقابية وضبطية ترفع من سقف التزام المنشآت بمسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية والوطنية، وتربط مستوى الحوافز والتسهيلات المقدمة لها من الحكومة بما تحققه من مصداقية في سياسة العمل وبرامجها وأنظمتها الداخلية، في احتواء للكفاءة العُمانية وسعيها نحو تطوير ذاتها وبناء قدراتها وتوفير الوظائف المستدامة للكادر الوطني.

من هنا فإنَّ أيَّ معالجة لِملفِّ التسريح والباحثين عن عمل يجِبُ أن تأخذَ في الاعتبار المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والظواهر الفكرية في مجتمع سلطنة عُمان، كونها نتاجًا لهذه التراكمات ولا يُمكِن ضبطها إلَّا بإغلاق باب التسريح وضبط كُلِّ الأسباب المؤدِّية إليه، وتبنِّي سياسات وطنية تعظِّم من بناء المورد البشري، وتفتح المجال له في الاستفادة من كُلِّ الفرص، وكسب ثقته في الاعتماد على النَّفْس والعمل الحُر، وتوظيف الممكنات الوطنية كالتسهيلات والحوافز والتشريعات في الحدِّ من مُشْكلة التسريح العُمانيين، بالوقوف على الثغرات الحاصلة، وعلاقة ذلك بالتوجُّهات والمبادرات المُتَّخذة في هذا الشأن والتي أسهمت في تفاقم المشكلة، إما للتراكمات التي ترتبت عليها، أو أنَّها جاءت لحلِّ مُشْكلة وقتية في زمن معيَّن، وما باتت تتسبب فيه من ضمور في مستوى معالجة التحدِّيات المرتبطة بالمسرَّحين وتفاقم ملف التسريح وسوء الفهم الحاصل لدى مؤسسات القِطاع الخاص والمنشآت في طريقة تعاطيها مع تلك المبادرات التي طرحتها ووزارة العمل، وبالتالي ما إذا كان تفاقم مُشْكلة التسريح نتاجًا للترهل الحاصل في سُوق العمل العُماني وحالة الإغراق التي يعيشها في ظل وجود التجارة المستترة والعمالة السائبة وغياب مسار المحفزات المنتجة واستدامتها وإنتاجيتها وبين ما إذا كانت المُشْكلة نتاجًا لما تمَّ اتخاذه من قرارات سريعة وتوجُّهات غير مدروسة أو عرضة للتجربة والتأطير والبحث وما ترتب عليها من تحدِّيات وتراكمات أدَّت إلى التوسيع في فجوة المعالجة، يضاف إليه غياب الضوابط والتشريعات وسلطة فرض الأمر الواقع على منشآت القِطاع الخاص.

على أنَّ ما تشير إليه تقارير الاتحاد العام لعمَّال سلطنة عُمان من أنَّ جهوده في هذا الموضوع، تكللت بالحفاظ على أكثر من (45708) في السنوات 2021- 2023 من القوى العاملة الوطنية في منشآت القِطاع الخاص من إنهاء الخدمات الجماعية أو تخفيض الأجور، مؤشِّر خطير يجِبُ فهم مغازيه ومنطلقاته وأهدافه المستقبلية، وكأنَّه يراد منه تصفيه القِطاع الخاص من العُمانيين، ودعوة إلى إعادة هيكلة ملامح هذا القِطاع بتثبيت الأيدي الوافدة فيه كاستحقاق ثابت لخلقٍ حالة من عدم الثقة بين المواطن والقِطاع الخاص، والمواطن وجهود الحكومة من جهة أخرى، وبالتالي ما قد يفهم منه بأنَّ مسألة التسريح لم تعُدْ ترتبط بالظروف الاقتصادية، بقدر ما هي ممارسات يفرضها الاقتصاديون وأصحاب الأموال لخلقِ مزيدٍ من الفجوة بين المواطن والثقة في أداء مؤسسات الدولة، ومحاولة فرض واقع جديد يؤسس في المواطن قناعة أكيده بعدم جدية القِطاع الخاص في استقطاب الكفاءة العُمانية، وهو الأمر الذي يحاول القائمون فيه على هذا القِطاع إثبات نظريتهم بعدم قدرة الشباب والمواطن العُماني على تحمُّل مسؤولياته، ووضعه الحلقة الأضعف في الجاهزية الأدائية، ومن جهة أخرى فإنَّ تنفيذ إجراءات التسريح تتمُّ وفق تجاوزات معروفة وممارسات تحمل في طيَّاتها سلوك الاستفزاز للمواطن والضغط عليه بأساليب تعسفية، وهو الأمر الذي يُمكِن قراءته في ملخَّص تقرير الاتحاد العام لعمَّال سلطنة عُمان حول البلاغات والمخالفات العمَّالية التي رصدها الاتحاد في العامين 2020 وحتى 2023 ضمن جهوده بالمتابعة والنظر في قرارات القوى العاملة الوطنية المنهية خدماتهم من العمل، حيث أبرز المطالب والشكاوى والمخالفات العمَّالية الواردة إلى الاتحاد العام في: إنهاء عقود العمل بالإرادة المنفردة من قبل صاحب العمل بدون مبررات قانونية، وإنهاء عقود العمل؛ بسبب انتهاء المشاريع المسندة للشركات، أو بسبب إفلاس المنشآت وتصفيتها، تخفيض أجور العمَّال، من خلال إجبارهم على توقيع عقود عمل جديدة وبمزايا مخفضة، وعدم صرف الأجور أو التأخر في صرفها، بالمخالفة لقانون العمل، وعدم الالتزام بأحكام اللائحة التنظيمية لتدابير الصحة والسلامة المهنية؛ ونقل القوى العاملة الوطنية إلى مواقع عمل مختلفة، بخلاف الموقع المتَّفق عليه والمحدَّد بعقد العمل؛ وإجبار العمَّال العُمانيين على تغيير عقود عملهم من عقود عمل غير محدَّدة المدَّة إلى عقود عمل محددة المدة، وعدم التزام المنشآت بتقديم المستندات اللازمة للعاملين للاستفادة من التسهيلات التي تقدمها المؤسسات المصرفية وشركات التمويل، والإنهاء الجماعي والفردي لخدمات القوى العاملة الوطنية، وإجبار العمَّال على الخروج في إجازات سنوية بدون أجر.

وعلى الرغم من أنَّ مُشْكلة تسريح العُمانيين من القِطاع الخاص تعود في أكثرها كما يظهر من تقارير الاتحاد العام للعمَّال إلى إنهاء عقود العمل، فإنَّه وبطبيعة الحال يبقى وجود عوامل أخرى حاضرة خصوصًا ما يتعلق منها بمستوى النمو الاقتصادي المحلِّي، لكونه المحرِّك الأساسي والمحوري لخلقِ الوظائف وفرص العمل الدائمة واستقرار سوق العمل والتشغيل وإنتاج وظائف عمل أكثر استدامة وقبولًا من قِبل العاملين في القِطاع الخاص. ومع ما فرضته التغيرات الاقتصادية في الآونة الأخيرة من واقع جديد في منظومة العمل، فإنَّها أسهمت في خلق أنماط عمل جديدة مثل أنظمة العمل المَرِن والعمل عن بُعد والعمل المؤقت والعمل لبعض الوقت إلى غيرها من المسميات، وبِدَوْرها أطلقت وزارة العمل مبادرات التوظيف لاحتواء الباحثين عن عمل وإيجاد فرص وظيفية لهم تتناسب مع مؤهلاتهم وتخصصاتهم مثل مبادرات «دعم الأجور» و»المليون ساعة» و»ساهم»، والتي تستهدف جميعها، استيعاب أكبر عدد ممكن من الباحثين عن عمل لفترات مؤقتة وأوقات محدودة، فإنَّ تلك التغيُّرات والتحوُّلات التي شهدتها أنظمة العمل ومبادرات التوظيف، أوجدت أشكال جديدة لعقود العمل لا توفر بطبيعتها الحماية الاجتماعية والأمان الوظيفي للعامل. الأمر الذي يتطلب البحث والدراسة ومناقشة الممكنات والآليَّات التي يُمكِن العمل عليها لإيجاد الحلول المناسبة التي توفر الحماية الاجتماعية والأمان الوظيفي للعامل، وما يعنيه ذلك من تأثير هذه العقود وأشكال التوظيف على مسار الإنتاجية والابعاد النفسية والقناعات السلبية التي تضع الوقت باعتباره المحك الذي يقرر مصير هذا الموظف أو العامل في أداء مهمته من عدمه.

عليه، باتَ ملف العقود المؤقتة يضيف إلى ملف التوظيف والتسريح اليوم ثقلًا آخر وتحدِّيًا أكبر وهاجسًا يدق ناقوس الخطر، إذ العقود المؤقتة ومحدودة المدَّة بأيِّ مسمى لها ـ إن لم يصدر بشأنها إطار واضح بالتثبيت وفق معايير واضحة ومعلومة ـ تتساوى في حجم تأثيرها وتداعياتها مع التسريح القسري والفصل التعسفي باعتبارهما وجهين لعملةٍ واحدة، وهي أن يتراجعَ المواطن من كونه موظفًا أو عاملًا إلى كونه باحثًا عن عمل، لِيعيشَ دوامة هذه التراكمات، وضحية هذه القرارات غير المدروسة والوقتية والتي لا يُمكِن البناء عليها واعتمادها كمسار وطني يقوم على تعظيم الكفاءة العُمانية وتعزيز موقعها في منظومة العمل والتشغيل، والحفاظ على درجة استحقاقاتها في جانب الالتزامات والحقوق والواجبات والإنتاجية وإدارة المشاعر وتعزيز المواطنة وترسيخ قِيَم الولاء الوظيفي أو كذلك تحقيق الأمان الوظيفي؛ إذ لا أمان وظيفيًّا لشخص مهدَّد بالتسريح، فعلى الرغم مما قد يثبته الفرد من كفاءة وقدرة وإنتاجية وانضباط وولاء وانتماء وشعور بالمسؤولية أو يقدِّمه من مبادرات ويصنعه من فرص ويبنيه من محطات التحول التي ستصنع في حياته الفارق؛ إلَّا أنَّه سيظل مهددًا بالفصل التعسفي والتسريح القسري الذي يُمثِّل انتحارًا للكفاءة العُمانية، كما أنَّ نتائجه الكارثية النفسية والاجتماعية والمعيشية والأسرية والاقتصادية أقرب إلى وصف النتيجة المترتبة عليه بأنَّها ـ جريمة ـ وكما قيل في المثل «قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق».

د.رجب بن علي العويسي