السبت 18 مايو 2024 م - 10 ذو القعدة 1445 هـ

«نظام التفاهة» «3ـ3»

«نظام التفاهة» «3ـ3»
السبت - 04 مايو 2024 05:00 م

سعود بن علي الحارثي

10

يؤكِّد «إريك يوجين» أنَّ «الخبير ليس مستقلًّا، وأنَّ عمله ينبغي تشكيله وفق طبيعة التمويل الذي يحصل عليه...». فالجامعة «ما عادت اليوم تبيع نتائج أبحاثها، وإنَّما تبيع علاماتها التجارية تحديدًا»، وللبرهنة على هذه الحقيقة عرض الكتاب لنموذجٍ مهمٍّ تمَّ توثيقه، بعد تحويل مدرسة «لوزان للعلوم التقنية إلى المعهد السويسري للتكنولوجيا في لوزان» يشير إلى أنَّ «فيضًا من التخصصات الغريبة التي ظهرت فجأة باسم الابتكار، التميز، والإنتاجية. بطبيعة الحال، كانت هذه التخصصات مكرَّسة تمامًا لمصلحة جهات الأعمال»، لقد تحوَّل الطلبة إلى «سلع، تبيع الجامعة، ما تصنعه منهم إلى زبائنها الجُدد»، فالعقول كما صرح رئيس جامعة مونتريال التي «تدار من قبل مديرين من أوساط البنوك، «ينبغي أن تفصلَ وفق احتياجات سوق العمل». لقد تمَّ «قلب الثقافة رأسًا على عقب إلى أن تحوَّلت إلى مجرَّد صناعة للترفيه، استعمار العقول من قبل الإعلان التجاري، سيطرة نظام التمويل الدولي على الاقتصاد...». يقوم «نظام التفاهة»، على «دعم التافهين لبعضهم البعض، فيرفع كُلٌّ منهم الآخر، لِتقعَ السُّلطة بِيَدِ جماعة تكبر باستمرار؛ لأنَّ الطيور على أشكالها تقع». والعمل كذلك على «مساعدة الموظفين من ذوي الكفاءة الاعتيادية على الترقي حتى يصلوا إلى شغل مواقع السُّلطة، مزيحين بذلك كُلَّ المنتمين لفئة ذوي الكفاءة العالية وفئة غير الأكْفَاء معًا...». و»تحت رعاية التفاهة: يشنق الشعراء أنْفُسهم في زوايا شققهم الفوضوية، ويقدِّم العلماء ذوو الشغف إجابات عن أسئلة لم يسألها أحد، ويبني الصناعيون اللامعون معابد خيالية... فالتفاهة تشجعنا، بكُلِّ طريقة ممكنة على الإغفاء بدلًا من التفكير، والنظر إلى ما غير مقبول وكأنَّه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنَّه ضروري: إنَّها تحيلنا إلى أغبياء. وكُلُّ مَن لا يشارك في هذا الفكر المدلّس سوف يواجه بالنبذ والإقصاء..»، فوظيفة الإنسان التَّافه، «نقل تعليماتهم بما يسمح بترسيخ نظامهم». أسهمت وسائل التواصل والبرامج والأدوات التقنية والذَّكاء الاصطناعي ـ كما يرى الكاتب ـ في رسوخ بنية «نظام التفاهة»، فقدِ اعتمد الإنسان على إمكاناتها وقدراتها وخصائصها في القيام بكُلِّ أعماله، والتَّرفيه عن نَفْسه، وإدارة استثماراته، وفوَّضها في اختيار ما يناسبه من احتياجات، بمعنى أنَّها تفكر بالنيابة عنه، فعطَّل عقله وأعضاء جسده التي ألِفَت الاسترخاء، لقد نقلت أجهزة الكمبيوتر والحواسيب والإنترنت الإنسان من عالمه الواقعي والحقيقي إلى الافتراضي، تتفاعل مشاعره وتتأثر عواطفه، يضحك ويغضب ويحاور، يربح ويخسر وتسرق أمواله، ويقرر فتنفذ له البرامج والتطبيقات ما يريده، وفي المقابل تيسر للآخرين الوصول إلى أسراره وأمواله وخصوصياته. فالسوق يعمل اليوم «من دون تدخل من العقل البشري: إنَّه يحرك من قبل خوارزميات تقوم بعملياتها خلال نانو ثانية «أي واحد على بليون في الثانية»، وهو أمر يُمكِن معه أن يتحققَ الخطأ بطريقة خارجة عن السيطرة. لقد صارت العقلانية الاقتصادية مدمجة الآن في برامج الحاسوب (الكمبيوتر) التي يلقيها الخبراء في المقلاة، من دون معرفة محددة لما سوف يحدث بعدها لآلاف البليونات من الدولارات محل التعامل يوميًّا. ففي الأول من اكتوبر ٢٠١٢، قامت خوارزميات غير معروفة بالسيطرة على البنية الإلكترونية التحتية لبورصة نيويورك، وذلك من خلال إغراقها بعروض خالية من الأرباح، كان الهدف منها هو التقليل من التدفقات المنافسة، كجزء من استراتيجية ما زالت غير مفهومة حتى اليوم. حيث تؤدِّي هذه الآلات بكُلٍّ من: مدخرات الأفراد ذوي الدخول المحدودة، الديون الوطنية للدول، وقِيَم العملات. ففي بورصة نيويورك توجد عدَّة حواسيب (كمبيوترات) ذات فائق الجودة، تتحارب فيما بينها على قِيَم الأسهم، مستهلكة في اليوم الواحد طاقة كهربائية تكفي لتزويد (٤٥٠٠) منزل...»، إنَّنا في عصر «نظام التفاهة»، نتعامل مع «اقتصاد غبي»، تتأكد ملامحه في، أولًا: ضخ الحكومات مليارات الدولارات لإنقاذ اقتصاداتها من الانهيارات المالية، والانكماشات المدمّرة، فيما الحقيقة أنَّ تلك الأموال تصرف على شكل صفقات لدعمِ لوبيات الشركات والمصالح ورجال الأعمال الأثرياء الذين تسببوا في الكارثة المالية، في دورات متواصلة لِنَهبِ المزيد من أموال الشعوب. ثانيًا: «دفع بليونات الدولارات كمكافآت للمديرين وأعضاء مجالس الإدارات، حتى في السنوات التي يحققون فيها عجزًا ماليًّا». ثالثًا: توجيه الأموال التي تخصص لدعم الدول الفقيرة أو المنكوبة بالزلازل والأعاصير والحروب... إلى شركات ومقاولين ينتمون إلى ذات الدول التي خصصت هذه الأموال، في شبكة من المصالح يشترك فيها السَّاسة والأثرياء والشركات الذين لا تكفيهم تلك الأموال، فيواصلون الاستثمار في الدول الفقيرة لنهبِ المزيد من ثرواتها. قدَّم الكاتب سلسلة من الأمثلة والنماذج على حقيقة «نظام التفاهة»، وكيف أنَّ فئة صغيرة جدًّا من الأثرياء يتحكمون في الأكثرية، بتعزيز وتقوية النظام الذي جعلوا منه واسطة للمزيد من النفوذ والسيطرة وتعظيم مصالحهم وثرواتهم، وما تجذُّر مافيا الفساد، وتجارة المخدرات، واستغلال طبقة العمَّال، وازدياد نسبة الفقر، وعمليات النصب ونهب الأموال... إلَّا نتاج لـ»نظام التفاهة»، فالشركات التي تعمل على الاستحواذ على الجامعات والأكاديميات و»تسليع المعرفة»، وشراء عقول الطلبة من النابغين والمواهب وضمان تبعيتهم، وافتتان أُمَّة بأسْرها بشخصية كرتونية مِثل شخصية «سوبرمان»، الذي يجسِّد حقيقة «التخلي عن مسؤولية التفكير»، ونقل وتوطين الأعمال والشركات والأموال في دوَل تتميز بعمالة رخيصة وانخفاضات ضريبية، وحرمان دوَل المنشأ أو «موطنها الأصلي»، وسيطرة فرد واحد على مؤسسات إعلامية وثقافية وشبكات نقل واتصالات لتصبحَ «بيدقًا» يتمُّ التلاعب بها من قِبل العائلات الثرية والشركات، واستغلال نقابات العمَّال في المنافسة بين الشركات وتحقيق مصالح بعضها على حساب الأخرى... إلَّا مثال آخر على «نظام التفاهة». «كيف يُمكِن لمُجتمعنا أن يقبلَ مِثل هذا التركيز للأصول وللسُّلطة ليس فقط في يد شخصية سياسية، بل وحتى في يد مواطن فرد أيًّا من كان؟...»يواصل الدكتور «آلان دونو» حشد كتابه، بكمٍّ من البيانات والمعلومات المهمَّة، واستحضار أقوال وتصريحات عشرات المفكرين والكتاب والروائيين والأكاديميين والخبراء لتعميق وجهة نظره وتعزيز وتعظيم قيمة نظريته حول «نظام التفاهة»، التي شوّهت حتى جماليات الفنِّ ومقاصده التأملية المجرَّدة من غايات المادة والمنافع الدنيوية، بعد أن جنَّدَه «نظام التفاهة» ووظَّف الفنَّانين لخدمةِ وإنقاذ السَّاسة من براثن أخطائهم وتجميل أعمالهم الفاسدة، وصرف أنظار العامَّة عن جرائمهم «كجماعة لدعم مُجتمع مصدوم بشدَّة»، وتسخيرهم للترويج للشركات والسياحة... ففي «كيبيك، قام ١٠١ من هؤلاء الفنانين، بتقديم الدعم العلني للطموحات السياسية لشخصٍ كان قد موَّل إنتاجهم، قطب صحفي لا يُمكِن ـ بالحكم عليه من خلال ذائقته الرديئة التي تعبِّر عنها مطبوعاته ـ إلَّا بالنظر إليه كحفَّار لقبرِ الثقافة». فالفنان «يطلب منه لِيكُونَ إلى جانب سرير الضحية، فينزع الطابع السياسي من الحدث من خلال إحياء عدَّة حفلات موسيقية خيرية والحصول على إعلانات الدعم. إنَّه يعطي دَوْر اللاعب الاجتماعي لحياتنا الجمعية. مقيدًا بابتزاز ذوي السُّلطة». ينقل الدكتور «آلان دونو»، عن الكاتب «ألبير كامو»، الحاصل على جائزة نوبل للآداب في ١٩٥٧ قوله، لتصويرِ واقع الفنانين والمثقفين «إنَّ الفنَّان يؤدِّي الخدمة العسكرية الإلزامية. اليوم، يركب كُلُّ فنَّان على متن سفينة العبيد المعاصرة». يكبر قارئ هذا الكتاب الثمين ما عرض له مؤلِّفه من تفاصيل دقيقة ومعلومات قيِّمة وصوَر شاملة تعبِّر وتبرهن على الخلاصات والنتائج التي توصَّل إليها، هو كتاب يستحق أن يُقرأَ، وأن يخصصَ له موقع متميز في مكتبة العائلة لِفَهمِ وتبيُّن واستيعاب ما يحدُث في عالمنا اليوم.

سعود بن علي الحارثي