السبت 18 مايو 2024 م - 10 ذو القعدة 1445 هـ

نبض طبيب: أبناء الكادحين

نبض طبيب: أبناء الكادحين
السبت - 04 مايو 2024 05:02 م

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

40

يقضم الغصَّة بأسنانه، وبتفاصيل وجْهه البائس من وجع الفقد الذي لا يبرأ، ووهنٍ منهكٍ يثقل روحه يجرُّ ذيولًا من الهزيمة أمام معركة القدر، يغلِّف الحزن أحداقه فيزفر زفرةً يركل فيها وجع الفقْدِ، ويشهق على ناصية ضياعه، تتكسَّر الأحرف على شواطئ الحديث لِقَسوةِ التفاصيل فيبتلع ريقه بين الكلمات لِيستكينَ بين الحين والآخر، لِيحاولَ أن يتماسكَ ويسكنَ رهبة الحزن القابعة في داخله، ويصمَّ أذنه عن ترنيمات حزينة تتقاذفه كالمركب المضطرب بصدًى ما زال يتردَّد بين ثنايا روحه المتعبة، وحتى لا تتسارعَ نبضاته ويذرفَ الدمعات.

يحتضن بذراعَيْه الساكنتَيْنِ ملفًّا به أوراق غير مرتبة وتقارير كُتبت بحروفٍ دامية محَتْها موجات الحياة المتكسرة على مرفأ الفقدِ بتواريخ مُفجعة آخرها شهادة وفاة..

يتماسك في حضرة الأطباء، ظلَّ صامتًا حتى انتهوا من ثرثراتهم الجانبية، ساد الهدوء وقال: لقد شيَّعتُ فِلذة كبدي قَبل سنَة بعد أنْ فارقت روحُه الحياة في هذا المستشفى. ولكنَّ الموضوع لم ينتهِ هنا، بل وجع فراقه حاضر في الوجدان بكامل تفاصيله، لم تنتهِ المأساة، بل هي بداية لوجعٍ أحاول أن أتعايش معه.

يناقش في دوَّامة التقصير حسب ما يراه، ويتَّهم الأطبَّاء تارةً، ويُسلِّم أمره للقضاء والقدر تارةً، لا ألومه، حقيبته المدرسية ما زالت تنتظره لِيحملَها حبًّا ونشاطًا لِيكملَ حياته، درَّاجته الهوائية تسترقُ النظر لِيبدأَ مشاكساته في الحيِّ مع أقرانه.. رحلَ صغيري الجميل، ورحَلَتْ معه الأُمنيات، تبًّا لِزمنِ لا يُشْبه أحلامنا.

هذا الأب الحانق يرمي سَيْل الاتهامات الموجعة على الأطبَّاء بأنَّه تمَّ إهمال طفله؛ لأنَّه ينتمي لِطَبقةِ عامَّة النَّاس، سرديَّة الاتهامات هذه لا تُشْبه الأطبَّاء ونزاهتهم، لا تُشْبه بأنْ يتآمروا في علاج طفلٍ بريء؛ كونه لا ينتمي لِطَبقةِ النُّبلاء، وهل يعتقد هذا الأب بأنَّنا الأوفر حظًّا، وأنَّ جميع الأطبَّاء من أبناء الطبقة المخملية؟!

كيف سيتوانى طبيب عن علاج طفل لِمجرَّد أنَّه ينتمي لِلطَّبقةِ الكادحة؟ ألا تعْلَمُ أيُّها الأب بأنَّنا أيضًا من أبناء الكادحين؟! هناك مقولة مشهورة تقول «لولا أبناء الفقراء لضاعَ العِلْم»، لا يعْلَمُ هذا الأب بأنَّنا أبناء الطبقة الكادحة، كم صقلتنا الحياة وكدح آباؤنا لِنضعَ هذا المعطف الأبيض، بضيق العيش في رحلة جدلية في الدروب الوعرة بين شجن الوجدان والمعاناة الصفرية لِنضالِ الكادحين في رحلة لا عودة بها لِلوراءِ ولا مكان للفشلِ، نحن أبناء الشرفاء الذين يذودون عن كيانهم بقدرٍ كبير من الجهد والصبر والتحمُّل، طوَتْنا المسافات عن الأوطان والديار والغربة، فأغلب الأطبَّاء لم يولدوا عظماء ولم تولدْ معهم المكانة وألقاب الشرف أو النجاح، بل أثبتوا بأنَّهم الأجدى بالرِّيادة والكفاح رغم تواضع بداياتهم...

عزيزي الأب ابنك يُشْبه أبناءنا كثيرًا في عالَمهم المألوف وحكاياتهم البريئة، ولكنَّ أقدار الله تحمل بين ثناياها لكُلِّ طفلٍ قِسمتَه، لم يكنْ خطأً طبيًّا أو تقصيرًا، ولكن فتح المرض قفصه الأسود لِيلتهمَه بمرضٍ عضال شرسٍ يصعُب علاجه. وجَبَ التسليم بأنَّ مصائب ابن آدم من كوارث ومِحن هي من تدبير الله وحكمته. أنِرْ قناديل الرِّضا بقلبك بأنَّه رحَلَ لِمكانٍ أفضل، وكُلُّ التأويلات التي تطْلقُها هي من قسوة المرض وقسوة المواقف، إنَّها مشاعر الصَّدمة والفزع، إنَّها الحقائق التي لا يقبلها المُبتلون.

صدِّقْني إنَّ ارتدادات الفقد أيضًا تهزمنا كأطبَّاء، رحيل مريض من مرضانا يكسرنا ويُحطِّم جزءًا من أرواحنا، كأطبَّاء نتوشَّح الكثير من الحنو على أبنائكم؛ لأنَّهم أيضًا هُمْ أبناؤنا...

هذه الأحداث المهيبة تزيد من أعمارنا دون أن يتحرَّكَ بنا الزمن، وما زال يأخذنا الحنين للذين سقطت أرواحهم، ونحن نقاتل معهم، ونُقرئهم السَّلام، ونطلب لَهُم الرَّحمة ودعوات السّنين.

د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية

طبيبة وكاتبة عمانية