الجمعة 17 مايو 2024 م - 9 ذو القعدة 1445 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : إلى وزارة المالية مع الشكر.. الثوابت العمانية لا يساوم عليها بتقليل النفقات ورفض الموازنات

في العمق : إلى وزارة المالية مع الشكر.. الثوابت العمانية لا يساوم عليها بتقليل النفقات ورفض الموازنات
الثلاثاء - 30 أبريل 2024 05:06 م

د.رجب بن علي العويسي

120

منذ توَلِّي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ مقاليد الحُكم في البلاد، وفي كُلِّ خِطاباته وعاطر نطقه السَّامي يشدِّد على الثوابت العُمانية وما يُعبّر عنها من القِيَم والأخلاق وبناء الأُسرة والسَّمت العُماني، والظواهر الفكرية والسلبية، وأهمية البناء الفكري والعقدي والنَّفْسي والتعليمي للناشئة وتعويده على الالتزام بقِيَم المُجتمع وأخلاق الإنسان العُماني، وعلى أن تظلَّ الشخصية العُمانية في قوَّتها وتوازنها وسِيرتها وسَمتها عنوان فخر وشرف هذا الوطن في كُلِّ المواقع والموقف، وخارج سلطنة عُمان وداخلها، والمحافظة على الثوابت العُمانية المرتبطة بالأمن والتعايش والحوار وتعظيم دَوْر الكراسي الوطنية في الجامعات العريقة والمنظَّمات الدولية، ورسالة السَّلام العُمانية أو غيرها ممَّا يتعلق ببناء القدرات الوطنية وصقل الكفاءة العُمانية بكُلِّ الفرص التعليمية والتدريبية، أو ما يتعلق بالحياة الكريمة والعيش السعيد للمواطن، ويدخل في هذه الثوابت السياسة الخارجية لسلطنة عُمان والتزاماتها الدولية مع الأشقاء والأصدقاء وموقفها الثابت من القضية الفلسطينية والقدس، وسياسة حُسن الجوار والتعاون الدولي أو كذلك ما يتعلق بالسياسة الداخلية بما فيها من تنويع مصادر الدخل وتعزيز التنمية في كُلِّ محافظات عُمان، ومجانية التعليم، وفرص التعليم العالي، والصحة والسَّلامة والبيئة والإعلام ورسالة المسجد والأمن وحماية السَّلطنة من الكوارث والحالات الطارئة، وإعادة الخدمات الأساسية للولايات والمحافظات المتضرِّرة وغيرها، وكُلّ ما يُسهم في المحافظة على اللحمة الاجتماعية والولاء لجلالة السُّلطان والسيادة الوطنية والأمن الوطني؛ كونها ثوابت عُمانية لا يجوز التنازل عنها أو تحجيمها بأيِّ شكلٍ من الأشكال، كما لا يجِبُ أن تكُونَ عرضة للمساومة عليها في الموازنات المالية، مع الإيمان بأهمية الضبط والتقنين المالي لها بما يحافظ على استدامة هذه الثوابت ويضْمَن استمرارية تأثيرها، دون أن يمسَّ من مكانتها أو أهميتها أو يعرِّضَها لأيِّ انتهاكات.

لقد وضعت رؤية «عُمان 2040» في محاور عملها أولوية «المواطنة والهُوِيَّة والتراث والثقافة الوطنية» منطلقًا لِتَعزيزِ هُوِيَّة المُجتمع، والعمل على المحافظة على تراثه، وتوثيقه ونشره عالميًّا، والسَّعي لإيجاد منظومة شراكة مُجتمعية مؤسسية متكاملة تُعزِّز الهُوِيَّة العُمانية؛ وفق مبادئ أصيلة، وإجراءات ثابتة لِتَعزيزِ كفاءة الاقتصاد الوطني واستدامته، وترسيخ نُظم الحوكمة والحماية الاجتماعية في مواجهة الظروف والتحدِّيات الاقتصادية، لِتصبحَ منظومة متكاملة، محكمة النسيج، مترابطة الحلقات، لا تتغيَّر بتغيُّر الأزمان، بل تتجاوب مع المتغيرات العالمية والمؤثرات الداخلية والخارجية من دون أن تفقدَ جوهرها وأصالتها ومشروعيتها، متفاعلة مع التحوُّلات التي تطرأ على حياة الإنسان في غير ما انصياع للواقعِ، وإنَّما بالتكيُّف مع متطلباته لِتَوجيهِه نحو أفضل الممارسات الحياتية، ولِتضعَ مستهدفات هذه الأولوية قِطاعات الدَّولة الأمنية والعسكرية والمَدَنية والمواطنين أمام مسؤولية تحقيق متطلبات الهُوِيَّة في الواقع الاجتماعي وفي المسؤولية الوظيفية والمهنية قدمت خلالها مبادرات جادَّة ومتنوِّعة لِتَنفيذِ المستهدفات الوطنية من الرؤية ذات الصِّلة بالثوابت والهُوِيَّة والقِيَم وتعظيم دَوْرها ونقلها إلى ميادين التطبيق وعرصات التنفيذ والمنافسة.

فالحديث السَّامي لجلالة السُّلطان المُعظَّم عن القِيَم العُمانية بحاجة إلى برنامج عمل وطني يستهدف مختلف فئات المُجتمع في آليَّة تنفيذ هذه الأولوية عَبْرَ البرامج والمبادرات، سواء على مستوى مؤسسات التعليم المدرسي والتعليم العالي والجامعات أو على مستوى الخِطاب الديني ودَوْر الوعظ والإرشاد ومنظومة المساجد والقرآن الكريم وأئمة المساجد والكوادر الدينية أو كان على مستوى الإعلام الرقمي وتنوعُّ الوسيلة الإعلامية المؤصلة لهذه الثوابت أو كذلك على مستوى بناء الأُسرة العُمانية وتعظيم دَوْرها في حياة المُجتمع، أو كان على مستوى البرامج والخطط الإعلامية الداعمة للهُوِيَّة أو من خلال التشريعات والضوابط التي تضمن المحافظة على هذه الثوابت العُمانية من الظواهر الفكرية والسلبية، أو كذلك في دعم التراث المادِّي وغير المادِّي والموروث العُماني وغيره من المفردات الأصيلة في التراث الثقافي العُماني، ومعنى ذلك أنَّ تحقيقَ هذه الأولوية يضعنا اليوم أمام مبادرات مُتعدِّدة تستدعي أن يكُونَ لها حضورها ونشاطها في تعميق الصورة التي يراد تحقيقها في هذه الأولوية، ومع ما يظهر من سَعي المؤسسات إلى هذا الأمر وجهود وحدة متابعة تنفيذ رؤية «عُمان 2040» نحو إعادة توجيه هذه المبادرات ودمجها ضمانًا للشراكة وتعميقًا للفائدة وسعيًا نحو تحقيق مبادرات نوعية تتسم بالشمولية والاتساع وتخدم أكثر من منظومة مُجتمعية أو مؤسسة، كما تتَّجه لِمُختلفِ شرائح المُجتمع، إلَّا أنَّ المُشْكلة ليس في تقديم هذه المبادرات وما تحمله من مقترحات وبدائل وأهداف وصياغة، بل المُشْكلة في حجم الدَّعم المالي لها والموازنة المرصودة لها، إذ وبعد رفع مقترح المبادرة إلى وزارة المالية يأتي الردُّ بالرفض، إمَّا بعدم وجود الموازنة لهذا البند أو المبادرة أو لأنَّ الموازنة المرصودة لهذا البند لا تتعدى (50%) بل وأقلّ من ذلك بقليل لِتظلَّ هذه المبادرات حبيسة أدراج وزارة المالية تنتظر الفرج، ولا فرج لها يُذكر إلَّا بالتقليص لها أو انتزاع أهدافها لِتتجهَ إلى مسار آخر غير المراد لها.

وكمثالٍ على صورة التداعيات المرتبطة بإدخال منظومة الثوابت العُمانية في عُقم المساومات المالية وحجَّة التقليل من النفقات، ما أثاره توجُّه وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الموقَّرة بشأن سحْبِ الأئمَّة من المساجد التي لا تُقام فيها صلاة الجمعة لِتَغذيةِ الجوامع بها من فراغ خطير له تداعياته الأمنية والاجتماعية والفكرية والدينية على منظومة الثوابت العُمانية، ذلك أنَّ إعادة هيكلة وحوكمة منظومة المساجد وأوقاف المساجد وأموال المساجد ينبغي أن لا تؤثرَ في مسار تعيينات الأئمَّة ذلك أنَّ التعيين إنَّما يعبِّر عن مسؤولية وطنية في منظومة العمل والتشغيل واستيعاب الكوادر الوطنية من مخرجات العلوم الشرعية أو غيرها من الكليَّات من خارج سلطنة عُمان، أو أن تتبنَّى توجُّهًا بوقف هذه التخصصات حتى لا تضعَ الحكومة نَفْسها أمام تكدُّس المخرجات ذلك أنَّ حوكمة المساجد وإعادة هيكلة دَوْر الأئمَّة وتطويره بما يتناغم مع التوجُّهات الوطنية أولوية لا تتقاطع مع صرف الموازنات المالية وتأهيل أئمَّة المساجد، ويصبح إدارة الوقف المسجدي مرحلة متقدِّمة من العمل المؤسسي لا ترتبط بوجود الإمام بقدر ما هي سياسة وطنية متكاملة تتَّجه إلى ضبطِ نفقات المساجد خارج إطار القرار المرتبط بتعيين أئمَّة المساجد ومراقبة أدائهم وتقييمه وضبط آليَّات العمل مع التوسع في طبيعة الدَّوْر، والأمر الآخر يتعلق بإعادة رسم ملامح الدَّوْر القادم لأئمَّة المساجد وهو دَوْر تربوي وتثقيفي وتوجيهي وتوعوي، يتناغم مع متطلبات تحقيق أولوية الرؤية «عُمان 2040» المشار إليها ويتكامل مع ما أشرنا إليه سلفًا من الاهتمام السَّامي بالثوابت العُمانية المعبِّرة عن القِيَم والهُوِيَّة والأُسرة ودراسة الظواهر الفكرية السلبية وغيرها محور الهُوِيَّة والقِيَم، وتعزيز صناعة القدوات وبناء القدرات وإنتاج النماذج الوطنية توجه نحو المحافظة والصورة المشرقة للتَّسامح الديني والاعتدال الفكري والسَّمت العُماني؛ باعتبارها منصَّات تتشارك فيها المنظومات الدينية والتربوية والإعلامية والأُسرية، فإنَّ ثبات الإجراءات مع إعادة آليَّات الخطاب وطريقة التعامل مع الأدوات وآليَّة استخدامها، والمحافظ على السياسات التي انتهجتها الدَّولة في ما يتعلق بالاهتمام بالثوابت والخصوصيات ومن بينها رسالة المسجد، الذي صبغ حياة العُمانيين وكوَّن شخصياتهم على مرِّ العصور، والذي يجِبُ أن يبقى محافظًا على مكوِّناته في تحقيق هذا النهج، يؤكد على أهمية أن تستمرَّ الدَّولة في وضع يدها على هذا المجال وعدم الربط بين مفهوم الموازنات المالية وما يتعلق بالخصوصية والهُوِيَّة وممكنات مسارات التسامح الديني والاعتدال الفكري، سواء ما يتعلق منه بالبعد الديني ودور وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ذات الصلة أو ما يتعلق بِدَوْر وزارة التربية والتعليم في ترسيخ البناء الفكري المتوازن في بيئات المدارس أو دَوْر وزارة التعليم العالي وجامعة السُّلطان قابوس فيما يتعلق بترسيخ الهُوِيَّة ومواءمة التعليم مع متطلبات سُوق العمل وإعادة إنتاج المخرجات الوطنية اقتصاديًّا في إطار من المسؤولية والشراكة والتنوع والخصوصية والحقوق والواجبات.

عليه، فإنَّ تنفيذ مستهدفات رؤية «عُمان 2040» ذات الصلة بالثوابت العُمانية وتحقيق التزامات سلطنة عُمان الخارجية والداخلية ينبغي أن يكُونَ متناغمًا ومتوازيًا مع الاهتمام بالأبعاد الاقتصادية والاستدامة المالية وفرص التنويع الاقتصادي، بحيث يتَّجه العمل في تنفيذ هذه المبادرات إلى تعظيم المسار الاقتصادي فيها وعَبْرَ تعظيم اقتصاد القِيَم والأخلاق والثقافة والسَّلام والأمن والعادات والتقاليد والتعليم واقتصاد السياسة والموقع الجيوسياسي، بما يضمن الاستثمار في هذا الرصيد القيمي والأخلاقي والمحافظة على درجة الاستحقاق للكفاءة الوطنية وبناء الرأسمال البشري الاجتماعي العُماني وتعظيم حضوره للإسهام في صناعة المستقبل، هذا الأمر يجِبُ أن يتجهَ أيضًا إلى تبنِّي سياسات مالية أكثر مهنية في تعظيم الموهبة والخبرة والتجربة والإعلاء من القدوات والنماذج وبناء القدرات واللامركزية في الجهاز الإداري للدَّولة، بحيث تتجه الإدارة المالية نحو الاهتمام بالجوهر على الشكليات، وتعظيم الحوافز والمكافآت على الاحتفاليات، أو وجبة عشاء أو غداء في فندق تكلف المؤسسة عشرات الآلاف من الريالات، وبالتالي إعادة النظر في بنود المصروفات المالية والنثريات وغيرها لِصَالحِ الحفاظ على درجة التوازنات في الكفاءة العُمانية وتعظيم الهُوِيَّة والأخلاق والقِيَم باعتبارها محكات تقييم لضمان إنتاجية الموظف والتزامه وإخلاصه ومحافظة على ولائه وانتمائه الوطني.

والسؤال الذي يبقى مطروحًا: إلى متى سيستمر ردُّ وزارة المالية السلبي بشأن المبادرات المرتبطة بالهُوِيَّة العُمانية والثوابت بالرفض أو التعليق أو التأجيل بحجَّة الأولويات وتقليل النفقات أو عدم وجود الموازنات؟ لقد أصبح هذا الأمر محور حديث المؤسسات الحكومية المعنية بتنفيذ مبادرات الرؤية ذات الصلة بالثوابت والهُوِيَّة والإجراءات والممارسات المعبّرة عنها، بل باتت إحدى صرخات المسؤولين في وحدات الجهاز الإداري للدَّولة المعنية بذات الأبعاد والأهداف والموضوعات عند الإشارة إلى ما قدَّمته مؤسسته أو القِطاع الذي يعمل به، ولسان حال الكلِّ يقول: لقد قمنا برفع مبادرة حول هذا الجانب وتخدم مختلف فئات المُجتمع ولنا شركاء فيها من مختلف القِطاعات، إلَّا أنَّ ردَّ وزارة المالية جاء وللأسف الشديد بالرفض. إجابة تضع تنفيذ مستهدفات الرؤية أمام علامات استفهام كبرى؟؟؟

د.رجب بن علي العويسي