الخميس 16 مايو 2024 م - 8 ذو القعدة 1445 هـ
أخبار عاجلة

حرم المستشفيات وحرم الجامعات

حرم المستشفيات وحرم الجامعات
الاثنين - 29 أبريل 2024 04:47 م

أ.د. بثينة شعبان

10

تقاسيم وجْهِ كارولين فوهلين، أستاذة الاقتصاد في جامعة إيموري، بكُلِّ ما اعتراها من دهشة ورهبة وذُعر وتساؤل عميق عن نظام ديمقراطي تحوَّل بعد سيطرة الصهاينة على إدارته إلى نظام فاشي يقمع حُريات التعبير، وهي تحاول أن تردَّ الشُّرطي الأميركي عنها وتنظر إلى ما خلفه علَّ هناك من يسرع لنجدتها فلا ترى غير رجال قمع مدجَّجين بالأسلحة النارية، تعكس في وجهها الحقيقي وفي جوهرها وأسبابها الملامح المؤلمة للمرأة الفلسطينية التي اغتصبها جنود إسرائيليون في مشفى الناصر أمام عائلتها وهي تبحث عن موت ينقذها من لحظة إذلال أشدَّ وأدهى من الموت نَفْسه.

الذي تمَّ اختراقه وتسفيهه في حرم المشافي الفلسطينية والجامعات الأميركية ليس فقط حقّ المرضى في العلاج والدواء ولا حقّ الطلاب فقط في حُرية التعبير السلمي عن رأيهم بحرب الإبادة الوحشية التي يشنُّها نظام الأبارتيد المدعوم من قِبل الرئيس الصهيوني للولايات المُتَّحدة، وإنَّما حقُّ الإنسان بالكرامة التي ضمنتها له كُلُّ الشرائع والأديان والرُّسل وحقُّ الحرم الجامعي والمشافي أن يبقى محرَّمًا على السلاح وحامليه وعلى منتهكي كرامة الإنسان والضاربين بعرض الحائط بحقِّه في الموقف والمناصرة والتأييد للحقِّ ورفض الظلم وشناعة أساليب الظالمين.

مُعْظم ما تمَّ الترويج له من الحراك الإنساني السلمي النبيل في الجامعات الأميركية يستخف بعقل وذكاء البشر؛ فالحراك بدأ من جامعة كولومبيا من قِبل طلاب يهود وفلسطينيين مؤمنين بحُرية الإنسان وحقِّه في العيش على أرضه، ولا علاقة له بمعاداة السَّامية ولا بالموقف من اليهود، بل كان للطلبة اليهود شرف بدء حركة مناصرة غزَّة وأهل غزَّة تحت عنوان «ليس باسمنا»، فقد رفضوا ومنذ الأيام الأولى أن ترتكبَ حكومة نتنياهو العنصرية حرب الإبادة والتطهير العِرقي ضدَّ الفلسطينيين باسمهم وأعلنوا للعالم كُلِّه أنَّهم يقفون ضدَّ إجراءات حكومة المستوطنين العنصريين المتطرفين المدعومين من إدارة بايدن الصهيوني وضدَّ اغتصاب الأرض وضدَّ الاحتلال وضدَّ التنكيل بشَعب مسالم لا هدف له سوى العيش على أرض آبائه وأجداده بسلام وحُرية واستقلال. كما استهان الإعلام الغربي الموَجَّه من قِبل المال الصهيوني بعقول الناس مرَّة أخرى لِيقولَ إنَّ حراك الطلبة قد جعل الطلبة اليهود في الجامعات يشعرون بعدم الأمن والأمان وأنَّه غير مرحَّب بهم في جامعاتهم. وها هو رئيس قِسم شُرطة نيويورك جون شيل يقول: «حتى الطلاب الذين تمَّ إلقاء القبض عليهم في جامعة كولومبيا كانوا مسالمين ولم يقاوموا اعتقالهم وقالوا إنَّهم يريدون أن يقولوا ما يقولونه بأسلوب سلمي تمامًا».

الخلط المتعمَّد بين حكومة كيان عنصري يجِبُ أن تكُونَ جرائم الحرب والإبادة التي يرتكبها قادته وجنوده خاضعة لكُلِّ القوانين الدولية التي تخضع لها حكومات العالم أجمع وبين رفع شعار معاداة السَّامية أو المعاداة لليهود هو الذي يجِبُ التخلُّص منه مرَّة وإلى الأبد. فالقول بأنَّ «إسرائيل» أبادت عمدًا وعلنًا أكثر من (34) ألف طفل وأُم ومَدَني حقيقة لا علاقة لها بمعاداة السَّامية، بل إنَّ حكام «إسرائيل» الصهاينة هُمْ ألدُّ أعداء اليهود والسَّامية والإنسانية. كما أنَّ تزويد حكومة الإبادة الوحشية بالمال والسلاح الأميركي والتعبير المستمر للإدارة الصهيونية في البيت الأسود عن تأييدها رغم كُلِّ الجرائم البشعة التي ترتكبها بحقِّ الأبرياء في غزَّة وفلسطين يضع الحكومة الأميركية التي عبَّر رئيسها عن صهيونيته أيضًا في موقع الشريك بارتكاب حرب الإبادة هذه. لذا فإنَّ ما يحاول الطلاب الأميركيون المسالمون فعله من خلال انتفاضتهم في الجامعات هو ليس فقط الانتصار لشَعب غزَّة المظلوم ولكن أيضًا الانتصار للقِيَم الأميركية التي يدَّعون احتضانها واعتناقها ولسمعة الولايات المُتَّحدة في العالم ومؤسساتها الأكاديمية المشهود لها بالتفكير النزيه والحرية في الحوارات والدراسات الفكرية والتي كانت الولايات المُتَّحدة تباهي العالم بها. هؤلاء الطلاب العفويون الصادقون يحملون أمانة هُوِيَّة بلادهم وسمعة بلادهم في العالم أكثر بكثير من حكومتهم التي يعلن رئيسها عن دعمه غير المحدود للمُجرِمين الصهاينة والتي تحثُّ الخطى وراء مُجرِم الحرب نتنياهو وطغمته الفاشية العنصرية والتي سيحكم عليها التاريخ بأقسى أنواع الإدانة، وسيكُونُ هو ومَن دعمه وتعاون معه على ارتكاب هذه الإبادة الشنيعة في الصفحات السوداء من السجل الإنساني.

إذا كانت هذه الجامعات التي يفاخرون بها العالم قد أنجبت على مدى عقود النُّخب الحاكمة التي حكمت ووجَّهت بوصلة الحكم في الولايات المُتَّحدة فلماذا سحب الثقة اليوم من هذه النخبة ذاتها وتوجيه الإهانة والإذلال والقمع البوليسي المسلَّح لها؟ مع أنَّ كُلَّ ما تحاول هي فعله هو تصويب مسار خاطئ ومعيب وتعتريها الغيرة على تاريخ مؤسساتها وبلدها وشعورها الإنساني تجاه إخوة في الإنسانية مستضعفين لا حول لَهُمْ ولا قوَّة تتمُّ التضحية بهم من قِبل آلة حرب فتَّاكة تمدُّها حكومة الولايات المُتَّحدة بكُلِّ أنواع أسلحة الموت والدمار وبذلك فهي شريكة في الظلم والمظلومية الواقعة على هذا الشَّعب البريء. سيكُونُ الحراك الطلابي السلمي المُشرِّف الوحيد الذي يُمكِن للمؤسسات الأميركية أن تتبناه في الدفاع عن حقوق الإنسان وحُرية التعبير وإلَّا كيف يُمكِن للمؤسسات الأميركية والتي تَعدُّ نَفْسها الحَكم على كُلِّ ما يجري في العالم وهي التي تصنِّف مَن التزم بحقوق الإنسان ومَن لم يلتزم، كيف لها أن تصنفَ وتؤرخَ ما جرى على أرضها في هذه الأيام من قمع وحشي مسلَّح ضدَّ طلاب وأساتذة مسالمين، وأيَّة سردية سوف تتبناها لِمَا تشهده جامعاتها من قمع وعنف وكبت للحُريات يناقض تناقضًا صارخًا كُلَّ ما يوعزون به للدول الأخرى من اهتمام بالتظاهر السلمي وعدم الاعتداء على المتظاهرين وتمكينهم من التعبير عن أنْفُسهم بحُرِّية؟

هنا بالذَّات تكمن الخطورة وهي أنَّ إجراءات القمع على ساحات الجامعات الأميركية واعتقال الأساتذة بشكلٍ مُهين وتهديد رؤساء الجامعات بالطَّرد إذا لم يقمعوا الطلاب، كُلُّ هذا يناقض تناقضًا مطلقًا ما تدَّعيه الولايات المُتَّحدة من صونٍ للحُريات وحرص على ضمان حقِّ التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي. ومن هنا بالذَّات نفهم الصورة التي رأيناها من يومين للقاء الرئيس الصيني شي جينبينج مع وزير خارجية الولايات المُتَّحدة أنطوني بلينكن حيث يجلس جينبينج مِثل أبي الهول في وسط الطاولة بينما يحاول بلينكن رؤيته وسماعه في آنٍ، وكان قول شي جينبينج بليغًا وعميقًا وهادفًا حين قال لوزير الخارجية الأميركي إنَّ الولايات المُتَّحدة والصين يجِبُ أن يكونا شريكَيْن لا خصمَيْن وإنَّ هذا ما يريده العالم وليس فقط الصين وأميركا، وإنَّ على كُلِّ طرف ألَّا يقولَ شيئًا ويفعل شيئًا آخر. وهنا بيت القصيد فقد قصد الرئيس شي جينبينج أن يقولَ لبلينكن إنَّكم تقولون شيئًا وتفعلون شيئًا آخر، وإنَّكم يجِبُ أن تتوقفوا عن هذا. بهذه العبارة كان الرئيس الصيني يتحدث باسم العالم برُمَّته فقد ضاق العالم ذرعًا بالنفاق الأميركي والغربي عمومًا وبالسردية التي لا علاقة لها بما يفعلون على أرض الواقع، والحراك في الجامعات الأميركية في جزء منه يحاول ردم هذه الهوَّة وتطبيق ما يعلنه الأميركيون من مُثل على أسماع العالم، وبهذا فإنَّ هؤلاء الطلاب والأساتذة لا يدافعون عن حياة الفلسطينيين فقط، وإنَّما عن سمعة ومصداقية الولايات المُتَّحدة نَفْسها والتي تحاول الصهيونية والطغمة العنصرية المُجرِمة الحاكمة في كيان الأبارتيد والولايات المُتَّحدة وذيولها في الغرب جرَّها إلى أنفاق التاريخ المظلمة والمكروهة.

أ.د. بثينة شعبان

كاتبة سورية