الجمعة 03 مايو 2024 م - 24 شوال 1445 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : معالجة تأثيرات الأنواء المناخية والحالات الطارئة.. وماذا بعد؟

في العمق : معالجة تأثيرات الأنواء المناخية والحالات الطارئة.. وماذا بعد؟
الثلاثاء - 23 أبريل 2024 06:29 م

د.رجب بن علي العويسي

50


تطرح تأثيرات المنخفضات الجوِّية والأنواء المناخية الماطرة والحالات الطارئة التي تتعرض لها سلطنة عُمان في فترات متعاقبة، والمخاطر التي ترافقها الكثير من التساؤلات، وتستدعي كفاءة الأدوات والسيناريوهات التي يجِبُ أن تكُونَ حاضرة في منظومة العمل الوطني لما بعد الحالة الطارئة، وماذا بعد؟ في استحضار للمشهد المؤلم والأضرار الجسيمة والفواجع الكبيرة، وهول ما خلَّفته من دمار، وتركته من شواهد صعبة، ومواقف محزنة، تقشعر من رؤيتها الأبدان، ويشيب من هولها الولدان، ويفوق ما حملته من مشاهد الدمار ما يتصوره العقل والمنطق من أضرار في الموارد والممتلكات والبنية الأساسية والخدمات العامَّة في العديد من ولايات سلطنة عُمان ومحافظاتها، لِيقدِّمَ مشهد انجراف العديد من المنازل وسقوطها والصورة المرعبة التي خلَّفتها الأودية في انجراف المَركبات وتساقط الأشجار ودخول الأودية إلى المناطق السكنية والزراعية وغيرها كثير، ما يحبس الأنفاس ويختزل حجم ما تحقق على كُلِّ بقعة من تراب أرض عُمان الغالية من تقدُّم وتطوُّر ونهضة عمرانية وبنية أساسية متكاملة في شبكات الطُّرق وخدمات الكهرباء والمياه والاتصالات وغيرها، لِتمحوَ هذه الأحداث آثارها في ومضة هدب، وغمضة عين، ولمحة بصر.

وإذا كان لنَا من وقفات في ظلِّ مشهد استمرار تعرُّض أجواء سلطنة عُمان للحالات الطارئة، فإنَّ ما يجِبُ أن نؤكدَه اليوم، هو أنَّ المحافظة على استدامة ما اكتسبته منظومة إدارة الحالات الطارئة في سلطنة عُمان من خبرة عملية، متكاملة الأُطر التنظيمية والتشريعية والمؤسسية في إدارتها للحالات الطارئة، والتي استطاعت من خلالها أن تقدِّمَ ـ بعد إعصار جونو عام 2007م ـ نموذجًا إقليميًّا أعادت فيه تقييم وتطوير منظومة إدارة الحالات الطارئة، واتَّخذت خلاله إجراءات ثابتة وآليَّات واضحة وخطوات عملية استباقية، عزَّزت من قدرتها على صناعة الفارق، وأعطت العمل الجمعي الوطني في إطار اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة، واللجان الفرعية لإدارة الحالات الطارئة وجاهزية قِطاعات العمل بالمحافظات والتي شملت: قِطاع الإغاثة والإيواء، وقِطاع البحث والإنقاذ، وقِطاع الإعلام والتوعية العامَّة، وقِطاع الاستجابة الطبية والصحة العامَّة؛ محطَّات قوة رفعت من درجة التنسيق والتكامل بين مختلف الأجهزة الحكومية العسكرية والأمنية والمدَنية، والقِطاع الخاص والأهلي، مساحة قوة في التعامل الواعي مع نتائج هذه المنخفضات الجوِّية المطيرة والحالات الطارئة، وتعظيم المكاسب الاجتماعية الوطنية في إطار استنطاق القِيَم والأخلاق المبادئ والهُوِية الوطنية، واستنهاض الروح الإيجابية والإرادة الذاتية والشراكة المؤسسية والفردية في بناء قدرات وطنية فاعلة في إدارة الحالة الطارئة والوقاية منها في مختلف المراحل، سواء كان قبل الحالة وفي أثنائها، لِتتجهَ إلى جاهزية أكبر لما بعد تأثيرات الحالة الطارئة، وعبر تأهيل وتمكين البنية الأساسية والمشروعات التنموية، والخطط الموجهة نحو التخطيط العمراني الحضري والمساكن والخدمات لِتصنعَ جدارًا متماسكًا، وحصنًا حصينًا يقف في وَجْه الأعاصير والحالات الطارئة.

من هنا تبقى الإجابة عن التساؤل المطروح مرهونة بجملة من السيناريوهات والموجهات التي تأخذ شكل العمل الجمعي والتكاملي من جهة، وفي الوقت نفسه تتخذ إطار عمل مستدام باعتباره أجندة عمل وطنية لا ترتبط بوقتية التنفيذ في الحالات الطارئة؛ بل في كونها إطار عمل وطني بات حضوره واستدعاؤه في تفاصيل الممارسة اليومية للمؤسسات ضرورةً لا مناص منها، ما يعني أن يكُونَ اتجاه العمل إلى ما بعد الحالة مدخلًا لرسم ملامح التحوُّل في العمل المؤسسي والانطلاقة من هذه الأزمات مجتمعة، لِمَرحلةٍ متقدِّمة من العمل المؤطّر والأداء المنظّم الذي يقرأ تفاصيل تأثيرات الحالات الطارئة وتداعياتها على البنية الأساسية والعمرانية وشبكات الطرق والنقل والمياه وغيرها، وبالتالي أن لا تكُونَ ردَّات الفعل من قبل المؤسسات الحكومية وتصريحات المسؤول الحكومي في الاستجابة الوقتية لِمُتطلباتِ الحالة مجرَّد إبر مسكّنة لا يكُونُ لها مفعول الاستمرارية بقدر وقت زوال الحالة وهدوء العاصفة، بينما يتجرع المواطن غصَّة تداعياتها وتراكماتها في انجراف بيته ومركبته ودخول الأودية إلى مزارعه، ما يعني أن تكُونَ هذه الأحداث محطَّات لالتقاط الأنفاس وإعادة تقييم الحالة الوطنية، لِتَجنبِ تكرارية الثغرات والحدِّ من استمرارية الحوادث والفواجع كُلَّما استمرَّت هذه الأنواء المناخية.

وبالتالي أهمية أن يتَّجهَ الجهد الحكومي لِمُختلفِ قِطاعات ومؤسسات الجهاز الإداري للدولة إلى العمل على حلِّ المُشْكلة من جذورها والتعامل مع السيناريوهات القادمة بالنظر إلى أساس المُشْكلة وقراءة واقع التحدي، بما يعنيه ذلك من دَوْر المنظومات المجتمعية الإسكانية والبلدية والخدمات العامَّة وشبكات الطرق والصرف الصحي والمياه في استكشاف الخلل والوقوف على عين المُشْكلة وقراءة نواتج الفاجعة، وحجم الأضرار الناتجة عن الحالة الطارئة، في اعتراف بالقصور، ووضع اليد على الجرح، وفهم الأسباب الخفية وراء ما يجري من أحداث، وما يحصل من مواقف ونكبات، بكُلِّ تفاصيل المُشْكلة، وأن تصبحَ هذه المعطيات الناتجة عن حالة الضبابية أو سوء التخطيط أو غيرها مرتكزات لِتَصحيحِ الوضع الحالي وإعادة هندسة السلوك المجتمعي والمؤسسي نحوه، وضبط العمليات التنموية والإجرائية في المؤسسات وضمان قدرتها على التكيف مع الظروف المناخية والحالات الطارئة وبُعدها عن مجاري الأودية وتعريضها لانفجارات السدود وغيرها لِتضعَ مجلس الوزراء أمام مسؤولية تقييم الأضرار والوقوف على مطالب المواطنين واحتياجاتهم وما تعرضت له منازلهم وممتلكاتهم في الولايات المتأثرة بالحالات الطارئة والأنواء المناخية وغيرها، بما يضمن توفير شتَّى أشكال الدعم والمساعدة اللازمين للتخفيف من حدَّة تلك التأثيرات عليهم في أسرع وقت ممكن، والإسراع في إصلاح البنية الأساسية التي تضررت نتيجة هذه الأنواء، بالإضافة إلى اتِّخاذ ما يلزم من إجراءات لِسُرعةِ إعادة الخدمات الأخرى المتضررة؛

وبالتالي الأمانة الأخلاقية والمسؤولية التاريخية التي يتحملها المجلس في وضع الأوامر السَّامية موضع الطاعة والتنفيذ والوقوف الفعلي على معطيات الحالة، هذا الأمر بحاجة اليوم إلى تكاتف الجهود وتقاسم المسؤوليات وتناغم الأُطر ووضوح استراتيجيات العمل ووجود التشريعات المعززة للصلاحيات والممكنات التي تتعامل مع هذه التأثيرات، وتوظيف صندوق الأزمات بالشكل الذي يضمن قدرته على مواجهة تداعيات هذه الحالات والتعامل الفوري والسريع معها، ومن جهة أخرى إعادة تخطيط الواقع من جديد، سواء الشوارع برفعها عن الأودية وإيجاد الجسور المفتوحة التي تسمح بمرور وانسيابية المياه بسهولة ويُسر في ظلِّ ما يحصل من تجمُّع للمياه بسبب عدم وجود مسارب واسعة في الجسور ورجوعها إلى المناطق السكانية، هذا بالإضافة إلى تجنيب المخططات الإسكانية والصناعية والتجارية بطون الأودية وعمل السدود الجوفية وسدود الحماية بمواصفات عابية الجودة والصيانة الدَّورية لها وفق إطار مستدام واضح لها وليس عند الإعلان عن وجود أنواء مناخية أو حالات طارئة متوقعة على أجواء سلطنة عُمان؛ فإنَّ ما يجِبُ على الجهات المعنية التنبُّه له، هو وضع الاعتبار والاحترام لِمَساراتِ المياه الطبيعية وعدم المساس بأحرامات الأودية، ووضع الاعتبار الإلزامي بأخذ مشورة ذوي الخبرة من أهل الرأي والمشورة والمعرفة بمسارات الأودية والمياه بالولايات عند تخطيط المُدن، وإعادة تقييم المساكن والمناطق السكنية الواقعة بمسارات الأودية والسيول والتجاوزات الحاصلة على القنوات المائية (الشراج)، وتفعيل التشريعات والقوانين الخاصة بمجاري الأودية، والالتزام بتنفيذها، ومراقبة تطبيقها بدقَّة على أرض الواقع، في مختلف محافظات سلطنة عُمان، وإعادة النظر في منظومة التخطيط العمراني الحضري في محافظة مسقط والمحافظات الأخرى، خصوصًا فيما يتعلق برفع المخطَّطات الجديدة عن مجاري سريان الأودية، وتفريعاتها وشعابها، وعمل منافذ إلى البحر لجميع الأودية في المناطق الساحلية، على أُسُس علمية وهندسية عالية، وتطبيق المعايير القياسية الدولية في عملية رصف الطرق، والالتزام بالجودة العالية للجسور المبنية فوق الأودية، وفتحات تصريف المياه، على أساس احتساب حجم المياه وسرعة تدفقها في وقت ذروة الفيضان والجريان، ولِتَتلاءمَ مع الظروف المناخية في أسوأ حالاتها.

وبالتالي ما يعنيه ذلك كُلُّه من مراجعات وطنية لكُلِّ أجندة العمل التي أشرنا إلى بعضها، لِتضعَ اليد على الجرح، وتعيد النظر في كُلِّ الثغرات والمُشْكلات التي أفصحت عنها الحالة، ورصدتها اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة ومنظومات عملها، وأبرزت الحاجة إلى مراجعات جادَّة فيما يتعلق بعمليات التخطيط والتنسيق والرقابة وتنفيذ المشاريع والمتابعة والتكامل بين المؤسسات، ومدى تجسيد ذلك في معايير واضحة تجسدها الاستراتيجية السكانية والإسكانية والعمرانية والبنى الأساسية كالطرق والمياه والكهرباء وغيرها في إطار رؤية «عُمان 2040»، والممكنات التي تُعزِّز من قدرة منظومة إدارة الحالات الطارئة في التعامل مع مختلف الحالات والتصنيفات المتعددة لها، ومعنى ذلك أنَّ مفهومنا في إعادة البناء يجِبُ أن يرتكزَ اليوم على معطيات هذه الحالات، بحيث لا تقتصر المسألة على إعادة الحياة لطبيعتها السابقة، وعودة كُلِّ مواطن إلى منزله آمنًا مطمئنًّا ـ رغم ما يُشكِّله ذلك من أولوية ـ، بل أيضًا عبر معالجة الإخفاقات الحاصلة في البنية الأساسية التي أدَّت إلى تفاقم الوضع، وتحول مسار الأودية ومجاريها إلى الشوارع والطرقات وإلى مساكن المواطنين والمناطق السكنية المأهولة، فإنَ الخبرة التي اكتسبها العُمانيون في إدارة الحالات الطارئة بحاجة إلى خبرة أخرى تتجه إلى البنية الأساسية والمشروعات التطويرية والخدمية والإنتاجية، ومنظومة التخطيط العمراني، والتخطيط للمناطق الصناعية والتجارية والزراعية بما يقلل من حجم التأثيرات الناتجة عن هذه الأعاصير. ويبقى ما رافق منخفض المطير الذي تعرضت له أجواء سلطنة عُمان في الفترة من (14-16) إبريل لعام 2024، وحجم الحوادث والفواجع والنكبات والضرر الذي خلَّفه وراءه في البنية الأساسية ومساكن المواطنين وممتلكاتهم وما تسبب فيه من وفاة أكثر من (20) فردًا جرفتهم الأدوية دروسًا متعلمة ومواقف مجربة، تؤسِّس لِمَرحلةٍ جديدة في العمل الوطني المخلص، والأداء المؤسسي الكفء وتأصيل مبدأ الرقابة والمتابعة والتقييم للجاهزية المؤسسية في التعامل مع جهود الإصلاح للبنية الأساسية وعودة المتضررين إلى منازلهم، والتعامل مع الممتلكات المتضررة بمزيدٍ من الجدية وسرعة تنفيذ القرار.

د.رجب بن علي العويسي