الجمعة 03 مايو 2024 م - 24 شوال 1445 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : توطين الصناعة غاية يجب أن تدرك

في العمق : توطين الصناعة غاية يجب أن تدرك
السبت - 20 أبريل 2024 05:17 م

د.رجب بن علي العويسي

20


يأتي طرحنا للموضوع في ظلِّ جملة الموجهات الاقتصادية التي سَعَتْ سلطنة عُمان نحو تحقيقها في ظلِّ مرتكزات بناء المستقبل وإعادة هيكلة المنظومة الاقتصادية وتحقيق مستهدفات رؤية عُمان 2040م خصوصًا فيما يتعلق منها ببناء قاعدة متينة تقوم على أساس التنويع الاقتصادي مع الاهتمام بالتنويع القائم على أساس التقنية والمعرفة والابتكار، وتعميق الاستثمار في القِطاعات ذات القيمة المضافة العالية، وتعزيز مساهمة القِطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي؛ من خلال تطوير القدرات المحلية في مجال الابتكار والإبداع، وتشجيع الريادة، وتوفير التشريعات والحوافز، بما يعزز من تنافسية الاقتصاد العُماني إقليميًّا وعالميًّا.

وقد خطَت سلطنة عُمان ـ في سبيل تحقيق ذلك ـ خطوات نوعية متزنة، عملت خلالها على توجيه الأنظار إلى الفرص الاقتصادية والاستثمارية في سلطنة عُمان في ظل ما تتمتع به من ميزة تنافسية جيوسياسية وإطلالتها على طريق التجارة العالمي، الأمر الذي كان له أثره في تطوير المُدن الاقتصادية الاستراتيجية المتكاملة التي تسعى إلى استقطاب هذه الاستثمارات العالمية، وتوفير البيئة الملائمة فيها من خلال توفير الحوافز والممكنات والفرص لحضور الاستثمارات الاستراتيجية الأجنبية لسلطنة عُمان، حيث بلغت نسبة تدفقات الاستثمار الأجنبي من الناتج المحلي (4.8%) في عام 2022، وبلغ إجمالي الاستثمارات الأجنبية في سلطنة عُمان 2022 (27,134.9) مليون ريال عُماني حاز فيه النفط والغاز على (15,320.7) مليون ريال عُماني، يليه الوساطة المالية (5,558.9) ثم الصناعات التحويلية ((2,373.4، غير أن تعزيز الاستثمارات الأجنبية رغم أهميته الكبرى في تنشيط الحركة الاقتصادية ودخول الأموال إلى السلطنة وتعزيز كفاءة المُدن الاقتصادية بما تطرحه من مشروعات استراتيجية في القِطاعات ذات القيمة المضافة العالية، كالطاقة والبتروكيماويات والهيدروجين الأخضر وافتتاح المشاريع ذات الشراكة الاستراتيجية مع مختلف دول العالم، الأمر الذي أضاف لمسار التنويع الاقتصادي فرص نجاح يُمكِن أن تسهمَ على مرِّ الوقت إلى صناعة الفارق، لكنه ليس غاية في حدِّ ذاته ولا ينبغي أن يكون كذلك؛ لأنَّه ببساطة لا يضمن المحافظة على نتائج هذه الاستثمار لسلطنة عُمان، واستمراره يعتمد على طبيعة السوق والتحوُّلات الاقتصادية والسياسية وغيرها،

ونظرًا لما يُمثِّله القِطاع الصناعي من دور محوري في رفد الاقتصاد العُماني، لذلك اتجهت الحكومة نحو الاهتمام بهذا القِطاع في سبيل الخروج من عباءة النفط ومساهمة أكبر للأنشطة غير النفطية في الناتج المحلي، فإن المؤشرات الإيجابية في ارتفاع معدل القيمة المضافة للأنشطة الصناعية بنهاية الربع الثالث من عام 2022 نتيجة لارتفاع القيمة المضافة للصناعات التحويلية بنحو (65.6%) حيث بلغت نسبة الناتج المحلي للأنشطة الصناعية حتى نهاية 2022 ما يصل إلى (19.40%) وشكلت الصناعات التحويلية ما نسبته (48.3%) من إجمالي الناتج الصناعي، مؤشرات مهمة في تعزيز الصناعات التحويلية، بل والتوجُّه نحو توطين الصناعات التحويلية كخيار استراتيجي؛ باعتبارها غاية يجب أن تدرك ومسار وطني يجب أن يحظى بأولوية الاهتمام، فالصناعة تُمثِّل عمود أي اقتصاد يسعى للاستدامة، وركيزة أساسية في احتواء الموارد البشرية والمادية وتعظيم قيمتها المضافة، واستشعار ما يُمكِن أن يسهمَ به اقتصاد المصانع في تحريك المسار الاقتصادي وإعادة انتاجه عبر ما تثيره من فرص التجدد في الكفاءة الوطنية ومهاراتها والتنوع في الخيارات والبدائل المطروحة، وضمان التكيف مع احتياجات المواطن العُماني وأولوياته من احتواء للتحدِّيات الناتجة عن ضعف كفاءة سُوق العمل المحلي واستيعابه لمخرجات التعليم، واحتواء الباحثين عن عمل، والحدِّ من تسريح العُمانيين من القِطاع الخاص.

فإنَّ الحديث عن تعزيز دور الصناعة في صناعة المستقبل، يرتبط بتوطين الصناعة ذاتها باعتبارها ركيزة البناء الداخلي للمُجتمع، ليس فقط في كونها الركيزة الأساسية لاقتصاد مستدام ومتنوع ويتكيف مع احتياجات الإنسان وأولوياته ويعزز من فرص التنويع في الاقتصاد الوطني فقط، بل لما تؤسسه من أمن اقتصادي يظهر في وجود مُجتمع صناعي يعتمد على نفسه ويستفيد من موارده ويشجع على ريادة الأعمال وإدارة المشاريع الصناعية ويعزز من دور المؤسَّسات الصغيرة والمتوسطة بالاستثمار في الصناعات التحويلية، خصوصا في ظل ما أفصحت عنه أحداث الحرب على غزَّة، وأهمية إعادة هيكلة الاقتصاد العُماني في ظل وعي المواطن العُماني والمستهلك بالقيمة المضافة الناتجة عن المقاطعة للمنتجات الداعمة للعدوِّ الصهيوني كسلاح بيد المواطن يستخدمه في مساعدة المستضعفين وأهل غزَّة، بحيث يمارسها المواطن اليوم كعقيدة ومبدأ ومسار حياة وليس كحالة وقتية، بل منهج أصيل وسلوك قويم يربي عليه أبناءه وينصح فيه أهله وجيرانه ويقتنع به الفرد كجزء من إنسانيته والمشتركات التي يؤمن بها.

لقد شكَّلت الخطة الخمسية العاشرة مرحلة مفصلية في افتتاح مشاريع استراتيجية في تعزيز اقتصاد الصناعة وتوطينها، وجاء مؤخرا الافتتاح الرسمي لمصفاة الدقم كأكبر مشروع استثماري بين سلطنة عُمان ودولة الكويت الشقيقة بقيمة استثمارية بلغت (9) مليارات دولار والتي بلغت نسبة التعمين فيها ما يزيد عن (60%)، لتقدم هذه المصفاة مع ما سبقها من جهود، بدأت بافتتاح ميناء الدقم واستقطاب الشراكات العالمية لِتَشغيلِه، فرصًا اقتصادية لٍتَوطينِ الصناعات التحويلية التي تقدِّمها المناطق الحرة والموانئ اللوجستية وغيرها، كما أنَّ الفترة السابقة قد أفصحت عن بعض النماذج لتوطين الصناعة حيث تم افتتاح مصنع كروة للسيارات بالمنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم الذي يعدُّ نقلة نوعية في الاتجاه الصحيح نحو توطين الصناعة العُمانية وتعزيز القيمة المضافة للقِطاع الصناعي في سلطنة عُمان عبر تطوير مجموعة الصناعات المرتبطة بقِطاع النقل والخدمات المصاحبة له، وما يُمكِن أن يحققَه ذلك من فرص جلب التقنيات الحديثة التي تساعد على تأسيس المشروعات الصغيرة والمتوسطة بالمنطقة، وتوطين صناعة مختلف الحافلات، الأمر الذي سيوفر فرص نجاح كبرى في الاهتمام بتوطين الصناعات التحويلية والخفيفة وإعادة إنتاجها في سلطنة عُمان.

وجاءت توجيهات حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ في ترؤُّسه لاجتماع مجلس الوزراء في السادس والعشرين من فبراير لعام 2023 بـ«أهمية تعزيز المحتوى المحلي للصناعات العُمانية وإعداد سياسات وطنية حولها، بهدف تقليل الواردات وزيادة الصادرات، مع التركيز على المشاريع التي تسهم في تحقيق قيمة مضافة للاقتصاد الوطني وتوفير فرص عمل للمواطنين»؛ لِتمثِّلَ دعوة سامية نحو خلق اقتصاد عُماني أكثر نضجًا وانفتاحًا وتركيزًا على الاستثمارات الحقيقية النابعة من عمق التجارب والتطبيقات العملية التي تؤسسها المصانع نظرًا للمردود الاقتصادي والعائد المادي والفرص التشغيلية التي تطرحها، فإنَّ ضرورات الاتجاه إلى اقتصاد الصناعة العُمانية يمثِّل اليوم خيارًا استراتيجيًّا وطنيًّا، نظرًا لارتباطه بعُمق المشكلة الوطنية ممثلة في ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمسرَّحين من القِطاع الخاص، ومفهوم العرض والطلب في سوق العمل المحلي، وموقع القِطاع الخاص من المنظومة الاقتصادية، والصورة غير المريحة التي بات يسقطها في ثقافة مدخلاته من مخرجات التعليم المدرسي والعالي على حد سواء.

وبالتالي أهمية الانطلاقة من التعليم في إنتاج النموذج الاقتصادي القائم على توطين الصناعات والتوسع في بنية المصانع من خلال تعظيم المهارات، وتنشيط حركة المعرفة والمحتوى المهني والتقني في بيئات التعلم ومناهج التعليم ورفع مستوى إدماج المفاهيم الاقتصادية والخبرات والتجارب العملية في سبيل إنتاج مواطن قادر على التكيف مع مستجدات الواقع الاقتصادي ويترك بصمة حضور له في انتعاش الاقتصاد الوطني لِيصبحَ اقتصاد المصانع الطريق الأمثل لصناعة القوة الاقتصادية، مع القناعة بأنَّ مسألة التنويع في المسارات التعليمية لا تعني إضافة مواد مهنية أو أخرى تتعلق بالبُعد الاقتصادي والاستثماري فحسب، بل أن تراعيَ هذه المسارات امتدادًا أعمق للتوازن في بناء الشخصية العُمانية، والتنوع في مسار التخصصات والوظائف والبنى التطويرية لمؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة وجامعة السُّلطان قابوس فيما يتعلق بإنتاج القدرات والنماذج الوطنية وتوسيع الخيارات في التخصصات ذات القيمة المضافة التي تحتاجها وظائف المستقبل كالتقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، مع الاستمرار في التخصصات المهنية والتقنية والفنية، والزراعية، والصناعية، وريادة الأعمال التي تمثِّل امتدادًا لبناء القدرة الوطنية للتكيف مع نموذج الصناعة القادم، فإنَّ الجهود تقتضي أن تتكاملَ الجوانب الأكاديمية والمهنية والفنية والتقنية بحيث يقدِّم التعليم المدرسي خبرات فنية تعدُّ الطالب للالتحاق بسوق العمل لتلبية حاجات المُجتمع من القوى الوطنية الماهرة وشِبه الماهرة التي تشكِّل النسبة الأكبر في القوى العاملة على المستوى الدولي والمستوى الوطني، وهنا يتجه الأمر إلى دَوْر المهارات في رسم صورة اقتصاد الصناعة الوطنية، وأن يواكبَ هذا الجهد المبذول في تهيئة المُدن والمناطق الصناعية كبيئة أعمال للصناعة التحويلية، مع جهد بناء عقيدة العمل والمهارة والإنتاجية في حياة المواطن.

أخيرًا، يبقى توطين الصناعة عامة والصناعة التحويلية على وجه الخصوص الطريق الأنسب لرسم هُوِيَّة الصناعة العُمانية، وضمان قدرتها على تحقيق تحول في مَسيرة التنمية الوطنية، والذي يتَّجه نحو توطين الصناعة التحويلية من خلال إعادة تدوير المواد الخام داخليا والتقليل من مسارات التوريد، الأمر الذي سيسهم بِدَوْره في تشغيل المواطنين واستيعاب أكبر قدر ممكن من مخرجات التعليم من القوى العاملة الوطنية الماهرة وشِبه الماهرة والتي تشكل النسبة الأكبر من حاجة المصانع إليها، بما يعني مزيدًا من التوأمة والتكامل بين المُدن الاقتصادية، والمناطق الصناعية بالمحافظات ومؤسسات التعليم والتدريب، لتحقيقِ معادلة القوَّة في توطين الصناعة، والتي تقوم خلالها المدارس والجامعات برفد المصانع بالقدرات والكفاءات العُمانية الماهرة وشِبه الماهرة والمتخصصة في إدارة وتسويق عمليات الإنتاج، وإعادة إنتاج وهيكلة وتطوير الأكاديميات المهنية وتفعيل دَوْرها في ريادة الاعمال وإنتاج المهارات التي يتطلبها سوق العمل العُماني وخلق فرص أكبر تعزز من قدرة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على الدخول بقوة في قِطاع الصناعات التحويلية لِتكونَ شركات عُمانية خالصة أو بنسبة لا تقل عن (90%).

د.رجب بن علي العويسي