السبت 04 مايو 2024 م - 25 شوال 1445 هـ

«نظام التفاهة» «1ـ3»

«نظام التفاهة» «1ـ3»
السبت - 20 أبريل 2024 05:14 م

سعود بن علي الحارثي

40


هل يوجد في عالمنا «نظام للتفاهة»؟ وما شكل هذا النظام وملامحه ومظلَّته؟ وكيف يُمكِن تكييفه وتعريفه؟ ما مخاطره ومضارُّه علينا نحن البشر؟ وهل يُمكِن التكيُّف والتعامل والتوافق معه، أو الأفضل والأكثر حماية للإنسان تجاوزه والانفصال عنه والانتصار عليه؟ وكيف يتم ذلك؟ أوَلَسْنا نعيش آمنين مطمئنين منعَّمين في ظل هذه التحوُّلات والثورات العلمية والفكرية والاقتصادية التي تمطرنا بكلِّ ما لذَّ وطاب من مخترعات وابتكارات ومناهج ووسائل ومكنات الرخاء والازدهار والرفاه؟ فماذا ينقصنا؟ ولماذا نربط هذا التقدُّم الشامل الذي تعيشه البشرية بـ«التفاهة»؟ وكيف نجعل عالمنا محميًّا منها؟... أسئلة وأفكار كثيرة راودتني وأنا أقلِّب كتاب «نظام التفاهة»، للدكتور «آلان دونو»، المعروف بتصدِّيه «للرأسمالية المتوحِّشة ومحاربتها على عدَّة جهات»، وربط «نظام التفاهة» «بالنظام الرأسمالي البحت»، وأصبح عنوان الكتاب متداولًا بشكلٍ واسع في وسائل التواصل لِتَوصيفِ الكثير من المشاهد والمواقف والأحداث والمشاركات التي ربطت بـ«التفاهة»، و«لاقى رواجًا في كثير من دول العالم بسبب من أطروحاته الجريئة وأسلوبه المختلف»، وكتب الكثيرون عنه، تحليلًا وقراءةً وعرضًا ونقدًا، بل وأعدَّت حوله محتويات ومقاطع وتعليقات مصوَّرة، فما الذي سأضيفه في هذا المقال؟ تبرز أهمية الكتاب وقيمته الفكرية العالية، وقدرات مؤلفه ومهاراته الفذَّة، في دقَّة قراءاته للمشهد العالمي المحكوم من قِبل «الرأسمالية المتوحشة»، بتفاصيله الدقيقة، وما يمتلكه من ثقافة واسعة ومعلومات هائلة. ولأنَّ موضوع الكتاب وما احتواه من تفاصيل، راقَ لي كثيرًا، ويتَّفق مع رؤيتي ووجهات نظري بشأن ما يحدُث في محيطنا المحلِّي والعالمي من تحوُّلات، وهو ما تناولته الكثير من مقالاتي المنشورة، المنافحة والمدافعة بقوَّة عن المبادئ والقِيَم والأخلاق الإنسانية النبيلة في مقابل «التفاهات» والماديَّات والمظاهر وانصهار الإنسان المستمر فيها، والتي سلَبَتنا الكثير من سعادتنا ومعها كُلَّ شيء جميل وإنساني، فكتبت عن «الشخصية العُمانية»، وملامحها وسِماتها وإنجازاتها العلمية والعمرانية والعسكرية والبحرية والثقافية وآدابها وفنونها وصناعاتها... وما بنَتْه وطوَّرته من نظام حُكم رشيد متطوِّر، وهياكل ناجحة في إدارة حياتها العامة وتحقيق أمنها الغذائي، في شموليتها، وذلك قَبل أن تتأثرَ ببعض قِيَم «التفاهة»، وتحوُّلها إلى الاعتماد على الآخر في كُلِّ شيء، وعرضت لأخلاق الناس في القرية ومناهج التربية الصارمة وقواعد التعليم... والشخصية الجادَّة الرصينة، وقدَّمت مقارنة عن القِيَم بين جيلين، لِرصدِ التحوُّلات الطارئة عليها... وربطتُ نجاح العُماني في الماضي وتمسُّكه بقِيَمه وأخلاقه بـ»سيرة الآباء في إرادتهم الصلبة وتفانيهم وحرصهم وإشرافهم على تربية أبنائهم لضمان أدائهم المميز، ومجالستهم في السَّبلة العُمانية وفي سفرهم ونشاطهم اليومي ومختلف أوْجُه تعاملاتهم والاستفادة من خبراتهم على مدى القرون الماضية، الذي أدَّى إلى هذا التنوُّع الثقافي والخبرات المتعددة الجوانب وإلى رزانة الشخصية وصلابتها والتمسك بالقِيَم»، وأكدتُ على أنَّها «سِمات بِتْنا نفتقدها وملامح ثقافة راقية تتراجع بشكلٍ كبير عند الأجيال الصاعدة للأسف الشديد»، ونشرتُ مقالًا، بعنوان: «هيمنة الهواة ونشطاء التواصل المُجتمعي على قراءة المشهد الوطني» أوضحتُ فيه بأنَّ «وسائل التواصل المُجتمعي بدفقها الهائل من الرسائل المكتوبة والمسموعة والمرئية تشرح وتفنِّد، تحكي وتتحدث، تولول ألَمًا وأسَفًا وحزنًا، وتهتز فرحًا وبهجة وسرورًا، مدحًا وإشادةً أو قذفًا وهجاءً، تحلِّل وتقيِّم وتشخِّص وترصد وتتنبَّأ، تفتح الترندات والهاشتاجات المحتجَّة بقوَّة على سياسات وقرارات ما، فتصبح الأكثر تداولًا وسرعان ما تتلاشى كذلك، لِتؤسِّسَ لِمواضيعَ وعناوين أخرى جديدة، ننقل ونشارك ونتعاطف، نؤيد وننتقد ونبني أحكامًا دُونَ وعيٍ وتفكير وتقييم إلَّا الاستثناء، والجميع يدلون بدلوهم في كلِّ حقل ومجال وتخصص، وكثيرون أدمنوا الظهور الإعلامي من نافذة حساباتهم في «أكس» «تويتر سابقًا» و«فيسبوك» و«إنستجرام» إلى أن بلغَ الأمر وكأنَّ لزامًا عليهم الظهور والخروج لمتابعيهم والقذف ببضع تغريدات وإن كانت مستهلكة وملوَّنة ومتناقضة وغير مستساغة، ولا يقبلها العقل والمنطق، وتثير البلبلة والضغينة والعصبيات والالتباس والتندر والسخرية...» بمعنى أنَّها أصبحت تؤثر وتقود وتشكِّل الرأي العام. ولا شكَّ بأنَّ سبَبَ ذلك يعود إلى «نظام التفاهة»، الذي تناوله «آلان دونو»، وفي جلسة عصف فكري وصفت ما يحدُث في عالمنا العربي عبر وسائل التواصل من سخف وتفاهة بأنَّه «نتيجة طبيعية لمُجتمع استهلاكي يعيش في فضاء التبعية والفراغ والاتكالية، فتتلوَّن المشاركات والآراء وفقًا للمصلحة وما يريده الشارع وبما يكسب المشارك شعبية أكبر..». وبالمختصر المفيد فأنا أعترف بأنَّني وقعتُ في حُب هذا الكتاب، وشعرتُ بأنَّه وكاتبه قريبان منِّي ـ وهو ذاته ما حدَث لمترجمته الدكتورة «مشاعل عبدالعزيز الهاجري»، التي اعترفت قائلةً: «قرأتُه فأحببتُه» لأنَّه «عرضَ أفكارًا تكاد تطابق ما كنتُ أكتبُ فيه لسنوات» بشأن «موجات التسطيح، غياب العقل النقدي، دعاوى الخبرة، الرأسمالية المتوحِّشة، وهْم الكاريزما، عطَب المؤسَّسات، الفساد، تسليع الحياة العامة، الفن الرخيص، أثر التلفزيون...»، وبالطبع أصبح التافهون اليوم في وسائل التواصل، هم من يشكِّل ويقود الرأي العام في المُجتمعات، فهو إذن نظام بِتْنا نعاني منه في كُلِّ مفصل من مفاصل حياتنا في التعليم والسياسة والاقتصاد والثقافة والاستهلاك... لقد تحوَّلنا تدريجيًّا إلى مرحلة عيش «تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام أدَّى، تدريجيًّا، إلى سيطرة التافهين على جميع مفاصل نموذج الدولة الحديثة». لهذا لم أستطع تجاوز تأثير موضوعات الكتاب عليَّ، فقررتُ تخصيص مقال، عن «نظام التفاهة»، ولستُ أدَّعي بأنَّها قراءة له، بقدر ما هو ملخَّص لأهمِّ ما تضمنه، مع حقيقة أنَّ كلَّ كلمة فيه مهمَّة ومُدهشة وعالية القيمة، وكُلَّ زيادة لِتَوضيحٍ أو تعليق أو ملاحظة منِّي أعتقد بأنَّها لن تقدِّمَ إضافةً إلى المحتوى، بقدر ما يُمكِن أن تضرَّه وتشوّهَه إلَّا في حالة الضرورة. لقد بذلتْ مترجمة الكِتاب جهدًا مضنيًا في التعريف بالكِتاب، والإعلاء من قيمته وشأنه، وتقديم شرح شامل لمحاوره وفصوله، ومهَّدت للقارئ توضيحات وتفسيرات لإزالة اللبس والغموض، وهو يبحر في صفحاته وعناوينه. ولا عجب في ذلك فالمترجمة وفقًا لاعترافاتها وقعت في غرام الكِتاب واستهواها موضوعه الذي كان مجالًا خصبًا اشتغلت عليه، كمادَّة للنقاش مع طلبتها في «بعض مقررات القانون في برنامج الدراسات العليا في كلية الحقوق ـ جامعة الكويت».. «يتبع».

سعود بن علي الحارثي