الاثنين 29 أبريل 2024 م - 20 شوال 1445 هـ
أخبار عاجلة

في العمق : فاجعة شهداء العلم فـي سمد الشأن .. هل سيصحو معها ضمير المسؤولية؟

في العمق : فاجعة شهداء العلم فـي سمد الشأن .. هل سيصحو معها ضمير المسؤولية؟
الثلاثاء - 16 أبريل 2024 06:17 م

د.رجب بن علي العويسي

310

لم يكن صباح الرابع عشر من إبريل من عام 2024 يومًا عاديًّا لدى سكَّان قرى نيابة سمد الشأن بولاية المضيبي من محافظة شمال الشرقية، بل حمل معه فواجع كبيرة، ومآسيَ عظيمة، وأحداثًا جسيمة، وفقْدًا وحزنًا وألَمًا، فما أثقله من صباح، وأتعبه من نهار، في غمامته السوداء، وأصوات البرق والرعد التي تشيب من هولها الولدان، وتصعق من قوَّتها الأبدان، ذاكرة رحيل مؤلمة، ومواجع فقد محزنة، وغصة من الألم والحزن والخوف والذعر تركها منخفض المطير، وعاشتها نيابة سمد الشأن وقراها العصماء الروضة والأخضر والشريعة وسمد، لِتقفَ الأحداث المتتالية عاجزةً عن الوصف، صاعقةً من هول الموقف، تخللتها مواقف عصيبة، ملأت البيوت صياحًا وبكاء، وصراخًا وعويلًا، حزنًا وألَمًا يعتصر الجميع، الأُمَّهات في البيوت، والأبناء في المدارس، أخدود سحابي ممطر بغزارة تفوق الوصف، لِتظلَّ الأرض غمامة سوداء في نهار بدا كلَيْلٍ حالِك، وفي سرعة البرق تجمعت خلايا السحاب السوداء، وما هي سوى دقائق حتى انهمرت السماء، وامتلأت الأرض، وجرت الأودية والشعاب بصورة تفوق المعتاد وتثير الذعر، بات الأمر صعبًا جدًّا، والوضع في أشدِّه غرابةً وألَمًا، فالأطفال في المدارس، وبعض المدارس في بطون الأودية، أين المُعين؟ أين المُنقِذ؟ شبكات الاتصالات منقطعة، والتواصل مع المدارس يكاد يكون معدومًا، في موقف اختلطت فيه الأمور، تتفطر منه قلوب الآباء والأُمَّهات. لقد أفقدَ هولُ الحدَثِ الجميعَ صوابَه، وكأنَّ ما يحدُث خيال ووهمٌ، ولسان حال الجميع يقول: هل فعلًا هي أمطار؟ كيف وضع أبنائنا؟ كيف يمكن الوصول إليهم؟ أغيثونا، طمنونا، يا الله لطفك، إنا نتوسل إليك بأطفالنا في مدارسهم، فهم في حفظك ورعايتك، وأنت خير الحافظين.

ورغم أنَّها كانت دقاق معدودة لم تزد عن ساعة من الزمن أو أقلّ، إلَّا أنَّ نزول الأمطار فيها بعظم الجبال كان مدعاة للتعجب والتخوف وزيادة القلق من الحدَث ونتائجه، إذ ارتفع منسوب المياه في الأودية لِيتجاوزَ مستواه المعتاد، وقوة جريان الأودية يفوق الوصف لِتجرفَ معها المَركبات وكلَّ ما وجدَتْه في طريقها. بَيْدَ أنَّ المدارس التي احتمى فيها الأطفال مع معلِّميهم لم تسْلَمْ من دخول الأودية إليها وإحاطتها بها من كلِّ جانب، لِيعيشَ الطلبة والمعلِّمون في أثناء الحالة الجوِّية حالة من الفزع والذعر والخوف والقلق، فما بين صراخ وبكاء، واستغاثة وطلب نجدة، وحزن وألَم، فلم يكن هذا اليوم بتفاصيله الصعبة وأحداثه المتراكمة سهلًا لفلذات الأكباد، ولأمر لم تعْهَده الطفولة من قَبل، بينما كانت تظلها البيوت، وترفرف عليها أجنحة الأمان والسلام في الاهتمام الوالدي، واحتضان أبنائهم ومنعهم من الخروج في أوقات الجوائح والأمطار.. يوم مكلوم في حياة أهالي قرى نيابة سمد الشأن، بدأت الأخبار تتصاعد، والاستغاثات تتوالى بوجود محتجزين في المدارس، ومَركبات جرفتها الأودية هي ومَن فيها، فكانت الصاعقة الكبرى والخبر المفجع، مَركبة أخذت معها أربعة عشر نَفْسًا، أطفالًا في سنِّ الزهور، كواكب كالبدر في تمامه لِتأخذَهم المياه الجارفة؛ فاجعة خلَّفت وراءها عشرة أطفال من مدرسة الحواري للتعليم الأساسي بسمد الشأن، فيا الله لطفك ورحمتك على هول المصيبة وعظم الفاجعة، فـ«إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون».

إنَّ في ما حمله منخفض المطير من فواجع مؤسفة، ونكبة مؤلمة وفقدٍ ورحيلٍ صعب لعشرة أنْفُس رضية، وعشرة أخرى غيرهم ممن كانوا ضحية انجراف الأودية، مواقف وعِبَر، ألْقَتْ بظلالها على المشهد العُماني برُمَّته، قيادة، وحكومة، وشَعبًا، غصة في كلِّ بيت وحزن في كلِّ موقع، مشاهد مؤلمة أصابت الجميع بالهلع والحزن والألَم، صورة تقطعت لها الأكباد واغرورقت لأجلها الأعين، وتقاطعت فيها الأفكار، وأذهلت فيها النفوس، واحتبست فيها الأنفاس، في ظل مواقف أخرى عصيبة عاشها طلبة مدرسة الروضة بمنطقة الغزل بقرية الروضة؛ جرَّاء احتجاز الأمطار للطلبة وارتفاع منسوب المياه ودخولها إلى المدرسة، من جهة والصورة الصعبة القائمة التي ولدها لدى الأطفال بُعد أهاليهم عنهم وحجم الذعر والخوف والألَم والأمل الذي عاشته الأُمَّهات والآباء في ظل انقطاع تواصلهم مع المدرسة، وتعذر الوصول إليها كليًّا. وفي مواقع أخرى من محافظة شمال الشرقية يستمر المشهد في ظلمته، لِتظهرَ منصات التواصل الاجتماعي أطفال المدارس وهم يصارعون الأودية الجارفة والمياه المرتفعة حاملين حقائبهم على ظهورهم متسلحين بنور العِلم، بغية الوصول إلى بيوتهم وقد غطت الأودية الأرض وارتفع منسوب المياه فوق المعتاد، فما أصعب الأمر وما أعظم المشهد، وما أشق الحال وأصعبه، ليتجلَّى في خضمِّ هذه الأحداث وهول الفواجع والمآسي التي تقطعت أوصالها وتشابكت خيوطها وأثقلت الأرض بها حزنًا وألَمًا، لِنقرأَ في الصفحة الأخرى من ملحمة البطولة والفداء والتضحية والوفاء العظيم، والمعاناة إخلاص المعلِّمات والمعلِّمين، وصبرهم وتحملهم، قد عاشوا الأمرَّيْن وعانوا الصعبين، فمن جهة يحتضنون الأبناء والأطفال الذين بلغ بهم هول الموقف مبلغة، وصعوبة الحدث منتهاه، في صياحهم وخوفهم وحزنهم وصراخهم، ليطمئنوهم أنَّهم بخير وأنَّ الله حافظهم فقاموا بالمسؤولية خير قيام، وأدّوا الأمانة بإخلاص، ومن جهة أخرى هم يعيشون الألَم والحزن وصعوبة الأمر وهم يشاهدون بأُمِّ أعيُنهم تدحرج مَركباتهم لِتقتادَها الأودية الجارفة في رعونة ووحشية إلى حيث أرادت، لِتبقَى معطَّلة في جذع شجرة أو مدفونة طمرتها الأودية داخل التراب أو الرمل وقد انتزعت منها المياه صلاحية الاستخدام وكفاءة الاستعمال بينما دفعوا لها دماء أموالهم، موقف ربط الله فيه على قلب الجميع، فلم يستطع أن يظهر فيه المعلِّمون والمعلِّمات صورة الحزن أمام أبنائهم الطلبة والطالبات رغم الألَم الذي يعتصرهم خوفًا من ردَّات الفعل النفسية والصدمات السلبية التي قد يسقطها هذا التصرف على أبنائهم الطلبة فظلوا في الموقف الصعب، فإنَّ ما أفصحت عنه منصَّات التواصل الاجتماعي من بعض ما تم تصويره من أحداث ومواقف، وحالة الهلع والخوف والحزن الذي ملأ وجوه الطلبة أصعب من أن يعايشَه الكبار ويتحملَه الشباب، فما بالك بهؤلاء الأطفال الصغار؛ فإنَّ التباعد بين الأمرَيْنِ جدّ عميق، ما بين طوفان عظيم على شكل أودية جارفة تأخذ معها الأخضر واليابس، وبين تلكم الطفولة العذبة التي باتت تصارع هذه الطوفانات العاتية، وتواجه خطر الموت المحدق وتتعرض لألَمِ الفقْدِ، في الوقت الذي هي بحاجة فيه إلى من يحتويها ويحتضنها، فما أصعب الموقف، وما أقسى المشهد في تفاصيله الكثيرة، وما أصدق عرصات التضحية ومواقف البطولة ومواقف التحدي التي سطَّرها هؤلاء العظماء، ثم لِننظرَ حجم التأثير النَّفْسي والفكري والصورة الأخرى التي ولَّدتها هذه الأحداث في حياة الطفولة النفسية وقناعاتها حول الكثير من الأحداث المرتبطة بالتعليم والأنواء المناخية وتعليق الدراسة وغير ذلك كثير لتبقى رواياتها الصادقة ما تبوح به حناجر الطفولة ومواقفهم الصعبة التي عايشوها.

وعليه، فإنَّ فاجعة شهداء العِلم وأحداث منخفض المطير رغم ما صار حولها من أخذٍ وردٍّ ونقاش وخلاف واختلاف، تبقى ذاكرة رحيل مؤلمة، ودروسَ فقْدٍ تحمل الكثير من الموجِّهات التي يجب أن تتعاطى مع منظومة العمل الوطني بكلِّ جدِّية، وبمصداقية والتزام نحو العمل على كلِّ ما من شأنه المحافظة على سلامة الطلبة، والحفاظ على أمن الإنسان على هذه الأرض الطيبة؛ باعتباره ثوابت وطنية أصَّلتها نهضة عُمان المتجدِّدة منذ أكثر من خمسة عقود مضت، فإنَّه وبحجم عظم الفاجعة، والقلق والحزن والفقد وصعوبة استيعاب الموقف، والفزع والذهول الذي أصاب أبناء عُمان جميعهم من هول ما حدث، في انطفاء حياة (18) نفسًا - حتى ظهر أمس - في هذا الوطن الغالي، لِيضعَنا أمام مراجعة جادة وحقيقية حول الأسباب والمُسبِّبات والموقف المرتبطة بالحادثة، ومراجعة حالة التراخي والضعف أو عدم الاهتمام الذي بات سببًا في هذه التراجعات، فمع ما اكتسبته منظومة إدارة الحالات الطارئة في سلطنة عُمان منذ إعصار جونو 2007؛ من خبرة عملية إقليمية، متكاملة الأُطر في إدارتها للحالات الطارئة، استطاعت خلال هذه الفترة أن تعيدَ تقييم وتطوير منظومة إدارة الحالات الطارئة، وأن تتخذَ إجراءات ثابتة وآليَّات واضحة وخطوات عملية استباقية، عزَّزت من قدرتها على إدارة منظومة الحالات الطارئة، وأعطت العمل الجمعي الوطني في إطار اللجنة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة مساحة قوة في التعامل الواعي مع نتائج الأعاصير والمنخفضات المدارية أو الحالات الطارئة، وعبر الجاهزية المؤسَّسية والتكامل في الجهود، والتناغم في الأُطر، وتعظيم المكاسب الوطنية المتحققة من هذه الحالات في إطار استنطاق القِيَم والأخلاق المبادئ والهُوِيَّة الوطنية، واستنهاض الروح الإيجابية والإرادة الذاتية والشراكة المؤسَّسية والفردية في بناء قدرات وطنية فاعلة في إدارة الحالة الطارئة والوقاية منها في مختلف المراحل، سواء ما قبل الحالة الطارئة، أو في أثناء عبور عين الحالة أو ما بعد الحالة الطارئة والسيناريوهات المعتمدة في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحالة، إلَّا أنَّ ارتفاع عدد الضحايا في هذا المنخفض إلى (18) شخصا يطرح علامات استفهام كبرى، وتساؤلات حول المتسببين في هذا الأمر، وما وصل إليه حال الطلبة، والظروف التي باتت حاضرةً في ذلك، ما يؤكد على حقيقة مهمة وهي أنَّ المحافظة على الثوابت العُمانية وإنسانية النهضة في صفرية الخسائر في الأرواح بات اليوم على المحك، وتستدعي تعزيز منظومة الرقابة والمتابعة وتأطيرًا عمليًّا لمسار المحاسبة والمساءلة والشفافية، وتأكيد إعادة النظر في مسار التمكين واختيار القيادات، والنظر بعُمق في منظومة التعليم، وبالتالي إعادة هيكلة هذه المنظومة وتقييم أدائها وإحداث مراجعة في طريقة تعاطيها وتعاملها مع الأولويات والثوابت الوطنية، كما يجب مراجعة دَوْر المنظومات الأخرى ذات الصلة بالحالات الطارئة، خصوصًا فيما يتعلق بالأبعاد الإعلامية والاجتماعية والاقتصادية، وحضور الشفافية والنزاهة والكفاءة والحدس والفراسة في المسؤول الحكومي، فإنَّنا في الوقت نَفْسه نثمِّن مبادرات مجلس الوزراء الموقَّر، لِنؤكِّدَ أنَّ بناء عُمان المستقبل بحاجة إلى كفاءات وقدرات نوعية تحفظ لهذا الوطن مكتسباته في إخلاصها والتزامها وكفاءتها وقدراتها وعقليتها الاستراتيجية وعقيدة الوفرة التي تؤمن بها وحُب الخير لأبناء عُمان وبناتها، وتعظيم استشعار أبناء عُمان لوطنهم وفضله.

أخيرًا، تبقى فاجعة شهداء العِلم بنيابة سمد الشأن، والخسائر في الأرواح التي خلَّفها منخفض المطير، محطَّات لالتقاط الأنفاس وإعادة التفكير الجدِّي للحكومة في المراجعة والتصحيح، وتطبيق منظومة الرقابة والمتابعة على الأداء الحكومي، ورفع درجة سلامة الطلبة وصفرية الخسائر في الأرواح؛ باعتبارها محكَّات أصيلة للحكم على الالتزام بالثوابت العُمانية والمحافظة على المكاسب التي تحققت في منظومة إدارة الحالات الطارئة، في سبيل تحقيق مبدأ: إنسانية النهضة والإنسان أولًا، وصفرية الخسائر في الأرواح. فإنَّ الاعتماد على مزاجية الإجراءات وشخصنة الأحداث والمواقف، مخاطرات غير محسوبة فوق القانون وقد تؤدِّي إلى ما لا يحمد عقباه. «رحمة الله على تلك الأبدان وأدخل أرواحها الجنان».

د.رجب بن علي العويسي