لقد كانت الأشهر السبعة الأخيرة كفيلة بتغيير حياة مُعْظم البشر في أرجاء العالم إلى حدٍّ كبير، فضلًا عن أنَّها، وبطريقة غير متوقعة، غيَّرت العالم الذي وُلدنا ونشأنا فيه؛ فصار مُعْظم البشر في أنحاء العالم، ولا سيما في العالم العربي، يشعرون أنَّهم باتوا غرباء في منازلهم، بل وفي بلدانهم؛ إذ إنَّ ما يجري في غزَّة من إبادة جماعية قد قوَّض بصورة كليَّة جميع المفاهيم والأفكار والسلوكيات والأُسُس الإنسانية التي تعلَّمناها وتربَّينا ونشأنا عليها.
اعتدنا عند اندلاع أيِّ حرب أو صراع أهلي أو عند وقوع كوارث طبيعية في أيِّ مكان من العالم أن نراقبَ المجتمع الدولي ونشاهدَ ما سيقدِّم من مساعدة لإنقاذ الأفراد الذين سقطوا جرَّاء النتائج السلبية للحروب أو الصراعات أو الكوارث الطبيعية أو المجاعات. لكن مع مرور الوقت ومع الإبادة الجماعية التي يتعرَّض لها شَعب غزَّة الأعزل على وجه الخصوص والشعب الفلسطيني عمومًا، تحوَّلت ردود الأفعال الدولية من الدعوة إلى التدخُّل العاجل إلى حالة من الدهشة والعجز والرهبة التي قد تصل إلى اليأس بصورة أو بأخرى. لقد أدرك العالم أجمع قبل تاريخ السابع من تشرين الأول /أكتوبر 2023 الوضع المروِّع الذي يعيشه الفلسطينيون منذ سبعين عامًا، لا سيما حصار غزَّة الذي وُصف بأنَّه أضخم سجن مفتوح في العالم. لكنَّ أحدًا لم يكن ليتخيَّل كيف يمكن لآلة عسكرية ضخمة مدعومة ومموَّلة من قبل أعتى قوَّة عسكرية في العالم أن تُحاصِر (2.2) مليون مدَني فلسطيني وتدمِّر المنازل فوق رؤوس أصحابها وتهدم المشافي كليًّا بما فيها من كوادر طبية ومرضى ومصابين. لم يكن أحد ليتخيَّل استهداف الإعلاميين ممَّن يحاولون نقل حقيقة ما يجري في غزَّة إلى العالم، ولم يخطر لأحد أن يتمَّ استهداف النساء والأطفال، فضلًا عن التركيز على قتل النساء الحوامل لِتَحقيقِ القتل المزدوج للمرأة وللجنين في رحمها. كذلك لم يخطر في بال أحد أن يتمَّ استهداف العاملين الدوليين في منظمة الأنروا أو في المطبخ العالمي أو قتل أيِّ شخص يحاول الحصول على المساعدات الإنسانية المخصَّصة لسدِّ رمَق الأطفال الجائعين.
تلك الأعمال الوحشية غير المسبوقة التي يرتكبها العدوُّ الصهيوني بحقِّ أبناء فلسطين قد تركت العالم كلَّه في حالة من الهلع، وأصابته بالشلل وعدم القدرة أو عدم الرغبة في اتخاذ أيِّ إجراء. لقد برهن مجلس الأمن ومنظومة الأمم المتحدة برُمَّتها أنَّهما رهينان لمن يموِّل عملياتهما. كذلك الأمر بالنسبة للآليَّة الكاملة الناجمة عن الحربين العالميتين حيث أثبتت أنَّها تعمل في خدمة الطرف الذي يحقُّ له استخدام حقِّ النقض (الفيتو) ولا يتردَّد في استخدامه بغية ضمان استمرار عمليات الإبادة الجماعية والتطهير العِرقي ضدَّ المدَنيين العُزَّل المحاصَرين والذين تشكِّل نسبة النساء والأطفال منهم الغالبية العظمى.
لقد اكتشفنا جميعًا من خلال هذه العملية المروِّعة أنَّ كُلَّ ما سمعناه وتعلَّمناه حول حُرية الصحافة في الغرب ليس سوى أسطورة فحسب، وتبيَّن لنا وجود غرفة تحكُّم واحدة مسؤولة عن نقل ونشر وتوزيع جميع الأخبار والمصطلحات والمفاهيم في أنحاء العالم. كذلك أدركنا أنَّ كُلَّ ما قرأناه من أدبيات حول الديمقراطية لا يساوي ثمن الحبر الذي كُتب به، وأنَّ حُرية التعبير وحقوق الإنسان ما هي إلَّا مواضيع لحوارات أكاديمية ومقالات بحثية تُبهر المؤلِّفين والقرَّاء دونما أيِّ أثَر أو علاقة موضوعية لها بما يجري في عالم الواقع. لقد اكتشفنا أنَّ العلاقات بين الدول تقوم على المصالح لا على المبادئ وأنَّه لا أحَد مستعدٌّ للتضحية بمصلحة ما مهما كانت صغيرة مقابل مبدئ جوهري.
إنَّ إدراكنا لكُلِّ هذه التفاصيل، فضلًا عن تفاصيل أخرى أكثر أهمية وأشدَّ إيلامًا يضع عالمنا اليوم، عالم القرن الحادي والعشرين، في حالة من الضيق حيث لم تَعُدْ هناك قيمة لأيِّ فعل أو أيِّ إسهام في كتابة أو قراءة ولا حتى في بذل أيِّ جهد لتغيير المسار المرعب للأحداث. ولذلك ينبغي علينا اليوم أن نعملَ بجد ليس فقط من أجْل إنقاذ شَعب فلسطين من الإبادة الجماعية التي يتعرَّض لها، بل أيضًا من أجْلِ إنقاذ ما تبقى من ثقة في إنسانية البشر وفي قدرتهم على تغيير مجرى الأحداث بما يعيد للإنسانية احترامها وقدسيتها. لقد كرَّم الله ابن آدم وأعظم شأنه فسخَّر كُلَّ مخلوقاته لخدمته، وجعل الإنسان خليفته على الأرض، وحرَّم تعالى قتل الإنسان بغير حقٍّ فقال في كتابه العزيز: «من أجْل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنَّه مَن قتل نفسًا بغير نَفْسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنَّما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنَّما أحيا الناس جميعًا». من هنا يتبيَّن لنا أنَّ إذلال بني البشر وقتلهم وإرغامهم من شأنه أن يُدخلَ العالم كُلَّه في نفقٍ مُظلم لا نهاية له.
إنَّ رائحة القتل والموت المرعب في فلسطين تفوح لِتصلَ إلى أنوف البشر كافَّة في كُلِّ مكان وفي جميع القارَّات والبلدان، وتحثُّهم على بذل قصارى جهدهم لاستعادة احترام الإنسان وحقوقه وكُلِّ ما من شأنه أن يضمنَ كرامته وسعادته. أما آنَ لفترة الصدمة والذهول والرهبة أن تنقضيَ وأن يتحركَ الضمير العالمي الحُرُّ في كُلِّ أصقاع الأرض لِيعيدَ للبشرية ما فقدته من احترام لبني الإنسان ولحياته العزيزة والكريمة؟ إنَّ الامتحان في غزَّة وفلسطين صعب ومؤلم وقاسٍ لكُلِّ الفلسطينيين والعرب ولكنَّه أيضًا امتحان لكُلِّ قاطني هذا الكوكب ومفصل تاريخي لن تكونَ الحياة بعده كما كانت قبله؛ فإمَّا أن نستجمعَ كُلَّ طاقاتنا الخيِّرة ونسيرَ بها نحو الأحسن، أو أن ندعَ البشرية تدخل في نفقٍ مُظلم لا يعلم أحَد أين يمكن أن تكونَ نهايته.
أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية