مثل الكثير من النَّاس الَّذين يبدؤون صباحهم باتِّجاه العمل أو السَّفر، هناك شيء واحد سيزعجهم: ألَا وهو الانتظار المستمر. فأنتَ تنتظر في مسارك بالطَّريق متَّجهًا للعمل، وعِنْدما تسافر، وأحيانًا بالمطاعم، وما إلى ذلك! لذلك هذا الشعور بالانزعاج من الانتظار يتقاسمه مُعْظم النَّاس، فتَسُودُ المشاعر السلبيَّة. فلا عجبَ أنَّ الباحثين وجدوا أنَّ انتظار المنتَجات والخدمات أيضًا يُقلِّل بشدَّة من الرِّضا والولاء لمقدِّم الخدمة ـ على سبيل المثال ـ!
بطبيعة الحال، مُشْكلة انتظار شيء نريده، حتَّى عِنْدما لا يكُونُ الانتظار مثيرًا للقلَق (كما هو الحال بالنِّسبة لنتيجة طبيَّة)، هو أنَّه يُنتج حالتيْنِ يكرههما البَشَر: المَلَل والافتقار إلى الاستقلاليَّة. لذلك فإحدى طُرق فَهْم المَلَل هي أنَّه حالة تَفشل فيها في العثور على المعنى. كالوقوف بسيارتك لفترةٍ طويلة بالطريق من أجْلِ أن تصلَ وجهتك، مع العِلم أنَّك تفعل ذلك للحصول على شيء ما أو القيام بِه ولكنَّك مُجبَر على قضاء الوقت دُونَ إنتاجيَّة. وهنا قَدْ يبدو بلا معنى، وبالتَّالي يُمكِن أن يؤدِّيَ ذلك إلى الإحباط.
بل أجزم هنا أيضًا، بأنَّ الانتظار يُقلِّل من إحساسك بالاستقلاليَّة، أو ـ إن صحَّ القول ـ يخلق موضعًا خارجيًّا للتحكُّم، ممَّا يعني أنَّ سلوكَك لا يُمكِنه تغيير الوضع الحالي، وهذا ـ واقعيًّا ـ غير مريح لأيِّ شخص. فكِّر في آخر مرَّة انتظرتَ فيها في المطار، رحلة طيران متأخِّرة لِفترةٍ طويلة والانزعاج النَّاتج عن عدم قدرتك على فعلِ أيِّ شيء حيال ذلك باستثناء الانتظار. بالنِّسبة للأشخاص الَّذين يشعرون بهذا كثيرًا في حياتهم، ليس فقط الانتظار في مسار الشَّارع المزدحم العرَضي، ولكنَّ الشعورَ كما لو أنَّهم عمومًا لا يملكون السَّيطرة على ظروفهم، لأسبابٍ ماليَّة أو صحيَّة أو اجتماعيَّة وعائليَّة، خصوصًا وأنَّ هذا الافتقار إلى الاستقلاليَّة أمْرٌ بالغ الأهمِّية؛ لارتباطه بالاكتئاب. لا سِيَّما وأنَّك لاحظتَ أنَّه ما يُفاقِم هذه المشاكل، هو أنَّ الوقت يتباطأ عِنْدما تنتظر شيئًا ما. ربَّما ذلك لأنَّ إدراك الوقت يُعَدُّ ـ أصلًا ـ سياقيًّا وذاتيًّا، وقَدْ تبدو المدَّة المدركة لِلتَّجربة وكأنَّها تمتدُّ عِنْدما نكُونُ تحت الضَّغط.
وعَلَيْه، فهناك حلول واضحة لِمُشْكلة الانتظار، وربَّما تكُونُ مفيدةً لحدٍّ ما! وهو ما كنتُ أفعله دائمًا، وهو محاولة هندسة البيئة الخارجيَّة للتخلُّص من أكبر قدرٍ ممكنٍ من الانتظار. وهذا يعني جدولة الأنشطة بدقَّة لِتجنُّب حركة المرور قدر الإمكان ـ مثلًا ـ. طبعًا، تساعد هذه الاستراتيجيَّة قليلًا ولِفَترةٍ من الوقت، ولكن كما اكتشف الباحثون النَّفْسيون منذُ فترة طويلة، فإنَّ المكاسبَ النَّفْسيَّة النَّاتجة عن تحقيق مِثل هذا الإشباع بشكلٍ متكرِّر لا تدوم عادةً. وذلك بسبب ظاهرة نَفْسيَّة تُعرف بالتعوُّد العاطفي: وهي العمليَّة الَّتي يقلُّ من خلالها الشعور الإيجابي عِنْدما نحصل على شيء ما مرارًا وتكرارًا. وعلى الرّغم من أنَّ هذه الأشياء وإزعاجها دائمان، لكنَّ فوائدَها تتلاشَى بسرعة وتصبح أمرًا طبيعيًّا يكاد يكُونُ محبِطًا مِثل الوضع القديم!
بطبيعة الحال، كُلُّنا يُدرك استراتيجيَّة الانتظار الأخرى، والَّتي يلجأ إِلَيْها مُعْظم النَّاس مؤخرًا، ألَا وهي الإلهاء عن طريق الهاتف. فعِنْدما يتشكَّل طابور أو تقف في مكانٍ ما تنتظر دَوْرك، عادةً يقوم الجميع بسحب هواتفهم لِتَضييعِ الوقت، وممارسة الألعاب، وتصفُّح وسائل التواصُل الاجتماعي. قَدْ تظنُّ أنَّ هذا الحلَّ يجِبُ أن ينجحَ كما يفعل الجميع، لكنَّه في الحقيقة قَدْ لا ينجح على الإطلاق! خصوصًا مع زيادة المَلَل، هذا ـ بلا شك ـ سيزيد احتمال استخدامهم لهواتفهم، وهذا لَمْ يقدِّم الرَّاحة. وعلى العكس من ذلك، عددٌ من الأفراد يُبدون المَلَل والتَّعب بعد استخدام الهاتف؛ لأنَّه حرفيًّا يمتصُّ طاقتك.
من ناحية أخرى، إذا لَمْ تكُنْ هذه الحلول الَّتي تحاول تغيير العالَم الخارجي مفيدةً، فإنَّ النَّظرَ داخل أنْفُسنا قَدْ يكُونُ رهانًا أفضل. وهنا ممارسة فضيلة الصَّبر سيكُونُ أحَد هذه الحلول. نعي جميعًا أنَّ نفادَ الصَّبر هو أمْرٌ أساسي في دَوْرة الانتظار والإحباط، خصوصًا وأنَّ أولئك الَّذين لدَيْهم قدر أكبر من الصَّبر لدَيْهم مستوى أعلى من الرِّضا عن الحياة ومستويات أقلُّ من الاكتئاب!
ختامًا، نُدرك الآن أنَّ أفضلَ طريقة لِتَقليلِ بؤس الانتظار ـ إنِ استطعت القول ـ هو ليس تغيير العالَم، بل تغيير الذَّات. ويُمكِن أن تنطبقَ هذه الرؤية ليس فقط على الانتظار، بل على الحياة نَفْسها.
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي