الجمعة 06 يونيو 2025 م - 10 ذو الحجة 1446 هـ
أخبار عاجلة

قاعدة: امحها يا علي

قاعدة: امحها يا علي
السبت - 23 مارس 2024 03:43 م

نجوى عبداللطيف جناحي

170


يا بُنيَّ: أنتَ شابٌّ طموح متميِّز مجتهِد في عملك، نرى أبواب المستقبل تتفتح أمامك، فنحن سعيدون بحرصك على مصلحة العمل، وبدقَّتك في الأداء وانضباطك، وجميع المسؤولين مسرورون بحماسك للارتقاء بالعمل، أنتَ محبوب بَيْنَ زملائك وتقودُهم بقوَّة وحزم وكفاءة، فَهُمْ يتقبَّلون تعليماتك، ويتعاونون معك، إنَّنا نرى فيك قائدًا مميَّزًا للمستقبَل.

لكن مهلًا يا بُنيَّ: أنتَ ترهق الموظفين الَّذين تشرف عَلَيْهم بالمبالغة والتشدُّد في أمور لا تستحقُّ الشدَّة، فأنت تحاسب الموظف على الالتزام بالحضور بالدَّقيقة والثَّانية فلا مرونة، ولا تساهُل، فلا تكافئ الموظف المجتهد في عمله والدقيق في إنجازاته بالمرونة في ساعات العمل. أنتَ تشدِّد على مستوى وطريقة عرض التَّقارير، فتهتمُّ بالدقَّة إلى درجة الاهتمام بصغائر لا ضرورة لهَا، وبأُمور لا يضرُّ العمل لو تجاهلتها. يا بُنيَّ: لقَدْ وضعَ لنَا الرسول ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ قاعدة مُهِمَّة في التَّعامل الإداري وهي المرونة، حيث قال صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم: (إنَّ الله رفيق يحبُّ الرِّفق، ويعطي على الرِّفق ما لا يعطي على العُنف، وما لا يعطي على سواه) رواه مسلم

يا بُنيَّ تذكَّر قاعدة في التَّعامل وضعَها لنَا الرسول ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ وهي قاعدة (امحها يا علي) وهي أبلغ درسًا في العمل الإداري، سأحكي لكَ هذه القصَّة لِتذكرَها وأنتَ تُرشد وتوَجِّه الموظفين الَّذين تُشرف عَلَيْهم.

فهي نصيحة نبويَّة في امتصاص وتهدئة الخلافات بَيْنَ النَّاس، هي قاعدة في التَّعامل الاجتماعي والسِّياسي والإداري في المرونة والسَّلاسة. أنتَ تعْلَم جيِّدًا قصَّة صُلح الحديبية والَّذي عُقِد بَيْنَ كفَّار قريش وبَيْنَ النَّبي ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ، فقَدْ أعدَّت مسوَّدة معاهدة بَيْنَ الرسول عَلَيْه الصَّلاة والسَّلام وبَيْنَ قريش، وقَدِ اختار كفَّار قريش سفيرًا لَهُمْ يعدُّ مسوَّدة الاتِّفاقيَّة ويُناقشها ويوقِّع عَلَيْها، وهو سهيل بن عمرو. وبعد الاتِّفاق على بنود الصُّلح قال لَهُ النَّبي ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ: هات اكتب بَيْنَنا كتابًا. فدَعا النَّبي ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ عليًّا بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجْهَه ـ فقال لَهُ: اكتب بعد باسْمِك اللَّهُمَّ، هذا ما قاضى عَلَيْه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو. فاعترض سهيل بن عمرو وقال: والله لو نعْلَم أنَّك رسول الله ما صددناكَ عن البيت. ولكن اكتب محمد بن عبدالله.

فقال رسول الله ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ لِعَلِيٍّ بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجْهه ـ: امحها يا عَلِيّ، واكتب محمد ابن عبدالله، وجَّه الرسول ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ هذا الأمْرَ لِعَلِيٍّ بن أبي طالب، تنازلًا مِنْه ومرونة مِنْه في تعامله مع الكفَّار، فقال عليٌّ ـ رضي الله عَنْهُ ـ: والله لا أمحها أبدًا، فقال صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم: هاتِها يا عليّ فمحاها بِيَدِه.

إنَّ فعل الرسول هذا علَّمنا درسًا في المرونة في التَّعامل الإداري، فأنتَ تتجاوز عن بعض صغائر الأمور لِتُحقِّقَ مكاسب كبيرة. فعِنْدما تتجاوز قليلًا عن الانضباط الوظيفي، تُحقِّق المزيد من المكاسب مع الموظفين في رفع مستوى كفاءة الأداء، وتقليل أيَّام الإجازات المَرَضيَّة، فانظر إلى موقف الرسول صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم، فقَدْ تنازلَ عن شكليَّات لأجْلِ مغانم استراتيجيَّة، وإنجاز بعيد المدى. نعم علَّمنا الرسول ـ صلَّى الله عَلَيْه وسلَّم ـ أن نكُونَ مَرِنين مع خصومنا وأعدائنا، فما بالنا لا نكُونُ مَرِنين مع الموظفين الَّذين يعينوننا على أداء مهامنا، علَّمنا أن نكُونَ مَرِنين في مُهِمَّة حسَّاسة لها أبعادها السِّياسيَّة، فما بالنا لا نكُونُ مَرِنين في مهام إداريَّة بسيطة.

اعْلَم أنَّ في تجاوزك عن صغائر الأمور ارتقاء بِك وبعملك، فكُنْ شامخًا بتجاوزك عن صغائر الأمور، واذْكُر دائمًا قول المُتنبِّي:

وتصغر في عين العظيم عظامها

وتعظم في عين الصغير الصغائر

اعْلَم أنَّ بمرونتك ورِفقك وتجاوزك عن صغائر الأمور تصنع مناخًا هادئًا يساعد على المزيد من الإنجاز، وهوِّن على مَن حَوْلِك من الموظفين أكبر مشاكل العمل؛ لأنَّك قادر على حلِّها ببساطة، فستجد أنَّك تكبر في أعْيُنهم وستكُونُ قُدوةً لَهُمْ وملجأً وسندًا يستغيثون بِك عِنْد الشَّدائد... ودُمْتَ يا بُنيَّ سالمًا.

نجوى عبداللطيف جناحي

كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية

متخصصة في التطوع والوقف الخيري

Najwa.janahi@