الأربعاء 31 ديسمبر 2025 م - 10 رجب 1447 هـ
أخبار عاجلة

الترجمة في العراق وآفاق المعرفة في العصر الحديث (5 -6)

الترجمة في العراق وآفاق المعرفة في العصر الحديث (5 -6)
الأربعاء - 31 ديسمبر 2025 01:18 م
20

تنشر «الوطن» في ست حلقات، كتابا جديدا للكاتب العراقي “وليد الزبيدي” بعنوان “الترجمة في العراق وآفاق المعرفة في العصر الحديث”.

يختلفُ العراقُ معرفيًّا عن كثيرٍ من الدول العربيّة، فالمعرفةُ، ومعها الترجمةُ، لم تقتصرْ على اللغة العربيّة فقط، وبقدر ما نجدُ التنوّعَ في اللغات والترجمات، فإنّ ميادينَ المعرفة تزخرُ بالكثير من هذا وذاك. وعند الحديث عن الترجمة في العصر الحديث في العراق، لا بدّ من الذهاب إلى بداياتها في العصر العبّاسي، والتوقّف سريعًا عند أهمّ محطّات الترجمة، ولا سيّما أنّ مدينةَ بغداد كانت المحطّة الأبرز على هذا الصعيد، كما أنّه من الصعب جدًّا التوقّف عند سقفٍ زمنيٍّ محدّد في مجالي المعرفة والترجمة.

وفي صفحات الكتاب وقفةٌ عند كلّ لغةٍ في بلاد الرافدين: الترجمةُ من العربيّة وإليها، والكرديّة، والتركمانيّة، والمندائيّة، والترجمةُ في اللغة السريانيّة.

ويواجهُ المتصدّي لمثلِ هذا الموضوع العديدَ من الصعوبات، فالإحاطةُ الوافيةُ ليست سهلة، لكنّ ما يقدّمه الكتاب في صفحاته إنّما هو إضاءاتٌ لا بدّ منها على منجزِ المترجمين والحقولِ التي عملوا فيها.

الترجمة في اللغة الكردية

واقع الترجمة في اللغة الكردية لا يختلف عن اللغات الأخرى في العراق، فقد مرّت بظروف مختلفة، وأنعكس ذلك على الثقافة والفكر بصورة عامة وعلى الترجمة بصورة خاصة؛ ولكن جذور الترجمة في اللغة الكردية قديمة، ويقول بهذا الصدد الباحث والمترجم الكردي أرشد العاصي( ): تشير المصادر إلى أن أول ترجمة بين اللغة الكردية ولغة أخرى، كانت من قبل الفيلسوف اليوناني كسينوفون بعنوان (الأناباسيس) كتب قبل (401) سنة من ولادة المسيح (عليه السلام)، ويتحدث فيه عن أن المسلحين اليونانيين كانوا يتكلمون مع (الكاردوخيين) عبر مترجم. وقد أخذ كسينوفون معه رجلًا يعرف اللغة بشكل جيد كي تتوقف الحرب ويعم السلام، وطلب منهم جثث القتلى أيضَا. وقد قال الكاردوخيون بأنهم سيعطون الجثث بشرط أن يكفوا عن حرق البيوت( ).

ويرى العاصي أن هذه الشهادة من قبل كسينوفون تضعنا أمام بعض الاحتمالات، فالكاردوخيون أو الكُرد، منذ ذلك الوقت كان لديهم لغة خاصة بهم، وأنهم آنذاك كوقتنا الحاضر كان يبنون العلاقات مع الأقوام الأخرى عبر الترجمة. ولغة الكاردوخيين كانت مستقلة إلى درجة أنه لا يفهمها الأجانب (اليونانيون) والأقوام المجاورة (الفرس)( ).

وفي العصر الإسلامي أي بعد كسينوفون، تشير المصادر إلى أن العالم الإسلامي (القاضي عبد المحسن بن علي التنوخي) (939-994م) ذكر (لسان الأكراد)، ولكن دون أن يقول شيئًا عن الترجمة من لغة الكرد. وهناك حديث بشكل متقطع عن اللغة الكردية في مصادر أخرى مثلا للمستشرق الإيطالي (بيترو ديللا فاللا) وفي كتاب (شرفنامه) للمؤرخ الكردي (شرف خان البتليسي)( ).

أما الإشارة الثانية عن الترجمة في الكردية جاءت في (سياحتنامه) لـ (أوليا الجلبي)، وهذه هي بدايات الترجمة الكردية في التاريخ القديم، وإلا فلا يوجد أثر عنها أبدًا إلى أواسط القرن التاسع عشر، فلا توجد بداية فعلية للترجمة من الكردية وإلى الكردية، وهذا عكس الأقوام الأخرى مثل العرب والفرس والترك والأرمن؛ حيث بدأت حركة الترجمة عندهم منذ القرون الوسطى( ).

وفي الوقت الذي مرّت فيه الترجمة بمراحل كثيرة باللغات الأخرى فأن هذا الحقل في اللغة الكردية يمكن اختصاره بمرحلتين، هما:

المرحلة الأولى: وهي مرحلة البداية للترجمة عند الكُرد قديمًا؛ حيث لم يكن لديهم أية دولة أو سلطة سياسية، فقد كانت هناك خمس فئات مختلفة معنية بالترجمة لأهداف متنوعة، وهي:

1- شعراء (گوران)، في القرن السابع عشر: وبدأت الترجمة عندهم من اللغات الأخرى إلى الكردية وليس العكس، وخاصة من اللغة الفارسية، ولكن كانت بشكل قليل ولمدة وجيزة ثم انقطعت، والذي تُرجم كان أكثره شعرًا، ولم يكن مخططًا لهذا؛ لذا لم يصبح مشروعًا ثقافيًا متكاملًا. وفي زمن إمارة أردلان (وهي إمارة كردية) تمت ترجمة رائعة إلى اللغة الكردية في النصف الأول من سنة (1700م) وهي ملحمة (خسرو وشيرين) لـ (نظامي الكنجوي) (1141-1209م) وقام بترجمتها (خاناي قوبادي). وكان هناك أدباء كرد يترجمون الأعمال من الفارسية إلى الكردية غير (خاناي قوبادي) ومنهم: ميرزا شفيعي، وأنور سلطاني( ).

2- علماء (الدراسات الكردية) من الغربيين، في منتصف القرن 19 وما بعده: ففي منتصف القرن التاسع عشر وما بعده، قام علماء غربيون مهتمون بالكرد بتشجيع علماء الكرد على الكتابة وخاصة الترجمة من اللغات الأخرى إلى الكردية. وكان أكثر هولاء العلماء من روسيا وفرنسا وألمانيا وإنكلترا وإيطاليا؛ ولكن لم يكن مقصدهم الرئيس هو إحياء اللغة والثقافة الكردية، بل كان مقصدهم معرفة الكرد من أجل تنفيذ مصالحهم التجارية والسياسية( ). وذكر الروسي (م. رودنكو) عام 1961 في كتاب (المخطوطات الكردية المحفوظة في لينينغراد) أن هناك مجموعة من المخطوطات الكردية، وهي عبارة عن نصوص مترجمة إلى اللغة الكردية وأكثرها ترجمت من الفارسية، والترجمة كانت تحت إشراف ملا محمود البايزيدي، ومنها:

أ- مخطوطة رقم Kurd 49: بعنوان (در المجالس) مجموعة قصص شعبية، قام بترجمتها من الفارسية (ملا موسى هكاري) في منتصف القرن 19، وعناوين بعض هذه القصص هي: شيرين وفرهاد، يوسف وزليخا، زوحاك الملك ـ رستم، زفاف جنكيزخان، نوشيروان وداروان. وقد تم كتابته بخط ملا محمود البايزيدي( ).

ب- مخطوطة رقم Kurd 37: وهي ترجمة (شرفنامه) لـ (شرف خان البتليسي) من الفارسية إلى الكردية من قبل ملا محمود البايزيدي، وقام بطبعها (مارغيت رودينكو) في موسكو مع كتابة مقدمة لها، وقد امتدح الدكتور كمال مظهر أحمد هذه الترجمة لبايزيدي وتحدث بشكل مفصل عن دوره وقدراته في كتابة التاريخ( ).

3- التبشيريون: في منتصف القرن (19) وما بعده؛ حيث قام هؤلاء بأعمالهم في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر واستمروا حتى الربع الأول من القرن العشرين، وكانت وراء نشاطات الترجمة عند هذه الفئة أهداف دينية أو دينية-سياسية؛ حيث حاولوا من خلال هذه الترجمات نشر الديانة المسيحية في كردستان؛ ولذا قاموا بترجمة الإنجيل وبعض الكتب الدينية المسيحية إلى الكردية.

4- العلماء والدعاة الكرد: حيث ترجموا كتب عقائد الإسلام وكتب الأحكام الشرعية وما يتعلق بها، ومن ذلك: كتب تفسير القرآن وكتب العقائد وعلم الكلام وكتب الحديث وشروحها والفقه وعلومه، ونذكر منها:

أ- معراج نامه للكاتب العربي (ملا نجم الدين الغيطي)، والذي قام بترجمته الشيخ (عبد الرحمن قرداغي) وهو عبارة عن رحلة الاسراء والمعراج للرسول محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى في القدس ثم إلى السماء( ).

ب- ترجمة كتاب دقائق الأخبار، الذي ترجم من العربية إلى الكردية ولكن اسم المترجم مجهول وعنوان الكتاب بالعربية (دقائق الأخبار في ذكر الجنة والنار)، وقد قام الإمام (عبد الرحيم بن أحمد) بترجمته للعربية ولا يعرف أساسه بأي لغة( ).

5- الملالي والشيوخ والمتصوفة الكرد، في منتصف القرن 19 وما بعده.

المرحلة الثانية: الترجمة في العصر الحديث، والمقصود بالعصر الحديث من سنة (1898م) وما بعدها، أي مع بداية ظهور أول صحيفة باللغة الكردية (صحيفة كوردستان 1898-1902) في القاهرة من قبل مقداد مدحت بدرخان. وقد أتى العصر الحديث بالعديد من الأحداث التي أثرت في ازدياد نشاطات حركة الترجمة، وأهم هذه الأحداث كما يرى عدد من الباحثين الكُرد، هي:

1- تطور الحس القومي والتحرر الكردي، في أواخر القرن 19 وبداية القرن العشرين( ).

2- تدشين عشرات المنظمات السياسية والثقافية والاجتماعية خارج كردستان وفي الداخل أيضًا( ).

3- وصول عدد من المستشرقين إلى كردستان خاصة من الإنكليز وتواجدهم في كردستان العراق في فترة الربع الأول من القرن العشرين، ومنهم (ميجرسون) -حاكم السليمانية بعد الاحتلال البريطاني-.

4- تأسيس أول مطبعة كردية، وظهور حركة الصحافة، وفتح أول مدرسة كردية وارتفاع نسبة المعرفة.

5- توطيد علاقات حضارية وثقافية قوية لأول مرة في تاريخ الكرد بين كردستان وأوروبا( ).

وهناك الكثير من اللذين قاموا بترجمات عديدة في هذه المرحلة، ونذكر مجموعة منهم مع ذكر عناوين المواضيع التي ترجموها إلى اللغة الكردية:

1- رفيق حلمي، أستاذ اللغة الفرنسية في المدارس الثانوية قبل وصول الإنكليز، وفي ثلاثينيات القرن الماضي، الذي قام بترجمة كتاب بعنوان (خلاصة المسألة الكردية) من الفرنسية إلى الكردية.

2- محمود جودت، وكان مهندسًا وكاتبًا معروفًا في عشرينيات القرن الماضي، وقام بترجمة كتاب (بهاء الله والدور الجديد) لـ ج.أ. سيلمنت إلى الكردية وطبع في بغداد عام (1933م).

3- حسين حزني موكرياني، ترجم أول كتاب من الفرنسية إلى الكردية في راوندوز عام (1928م) بعنوان (تربية ديدان الحرير).

4- ملا رشيد بابان، وقام في إسطنبول عام (1920م) بترجمة أحاديث (البخاري) و(مسلم) إلى اللغة الكردية.

5- جمال عرفان، ترجم في عام (1925م) كتابًا بعنوان (منذ متى والكرد مشغول) من تأليف (روبين باشا) من الأرمنية إلى الكردية، وطبع في مطبعة الفرات في بغداد.

واستمرت حركة الترجمة وزادت بشكلٍ لافت في النصف الثاني من القرن العشرين ولا سيما بعد إعطاء الحكم الذاتي لكرد العراق في 11/آذار/1970، وتواصلت حركة الترجمة وقام المترجمون في كردستان العراق بترجمة أعمال عديدة في فترتي السبعينات والثمانينات، وكانت هناك مجلات كردية تصدر في بغداد مثل (بيان) و(كاروان).

ومنذ منتصف تسعينات القرن العشرين إلى 2016، ظهر مترجمون جدد ترجموا الكثير من الأعمال العالمية في شتى المجالات (الأدب، والعلوم التجريبية، والعلوم الإنسانية، والفلسفة، والأديان، والفكر، والقواميس.. الخ). ومن أبرز المترجمين في هذه الحقبة: عبدالله حسن زاده، وحمه كريم عارف، وجليل كاكويس، ومحسن جيني، وآزاد برزنجي، وبكر شواني، ومكرم طالباني، وصباح إسماعيل، وشفيق حاجي خدر، ورسول سلطاني، ودلاور قرداغي، وعبد الخالق يعقوبي، ومحسن أحمد عمر، وإسماعيل كلالي، ورسول بختيار، وفيصل خليل، وجبار صابر، وسالار محمد قادر. ومن الشباب نذكر منهم: توانا أمين، وصلاح الدين بايزيدي، وحيدر عبدالله، وسيروان محمود، وفرهاد جوماني.

وتعتبر الخمسة عشر سنة الأخيرة أهم مرحلة في حقل الترجمة الكردية، وخاصة في كردستان العراق؛ حيث لم تقتصر الترجمة إلى الكردية بل من الكردية إلى اللغات الأخرى مثل الإنكليزية والألمانية والعربية والفارسية والتركية، وهناك أسماء لمعت في هذا المجال ونذكر منهم: جلال زنكبادي، ومحمد حسين المهندس. وخلال هذه الفترة تم ترجمة كتب وروايات كردية إلى لغات عالمية حية مثل: دواوين شيركو بيكس، وعبدالله بَشيو، ولطيف هلمت، وروايات بختيار علي، وجان دوست، وغيرهم.

وليد الزبيدي

 كاتب عراقي

[email protected]