يأتي العام الجديد محمَّلًا بمعنى يتجاوز الحسابات والنَّتائج، معنى يرتبط بجوهر التَّجربة الإنسانيَّة ذاتها. فاستمرار البَشَر في هذا العالم قائم على الأمل في القادم، والأمل هنا قوَّة دفع خفيَّة، تمنح الإنسان القدرة على النُّهوض بعد عام ثقيل، وتُعِيد ترتيب الرُّوح قَبل أنْ تُعِيدَ ترتيب الوقائع. وحين يحتفي النَّاس بدخول عام جديد، فَهُم يحتفون بحقِّهم الطَّبيعي في التطلُّع إلى الحلم، والاعتقاد بأنَّ الغد يحمل فرصةً أخرى للفَهْمِ والتَّصحيح والبناء، حتَّى الأعوام الَّتي تُخيِّم عَلَيْها الخيبات تظلُّ جزءًا من هذه المعادلة؛ لأنَّها تصنع وعيًا أعمق بقِيمة المحاولة والاستمرار. فالاحتفال بالعام الجديد لا يرتبط بتجميل ما مضى، وإنَّما بالإيمان بأنَّ الزَّمن يمنح دائمًا فسحةً جديدة لِمَن يملك الشَّجاعة على التطلُّع.. ومن خلال هذا المعنى، يُصبح الأمل فِعلَ مقاومةٍ هادئة ضدَّ الإحباط، ورسالةً ضمنيَّة تقول إنَّ الإنسان، والدَّولة، والمُجتمع، لا يعيشون على ما تحقَّق فقط، وإنَّما على ما يتطلعون إلى تحقيقه.. من هنا يُولَد الاحتفاء الحقيقي بالعام الجديد، احتفاء بفكرة البداية ذاتها، وبقدرة المستقبل على أنْ يكُونَ مساحةً مفتوحة لاحتمالات أفضل، مهما ثقل ما حمَله الأمس.
وفي العام الجديد تُواصِلُ نهضة عُمان المُتجدِّدة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ مسارها بثقة هادئة، وهي تتطلع إلى أنْ يكُونَ عام 2026م عامًا للحصاد بعد سنوات من البناء المتدرِّج وترتيب الأولويَّات، وضبط الإيقاع الاقتصادي، فما تحقَّق خلال المرحلة الماضية لم يأتِ على هيئة قفزات صاخبة، وإنَّما عَبْرَ عمل تراكمي أعادَ صياغة العلاقة بَيْنَ التَّخطيط والتَّنفيذ، وبَيْنَ الطُّموح والقدرة الواقعيَّة. واليوم تدخل سلطنة عُمان عامًا جديدًا وهي أكثر استعدادًا لترجمة السِّياسات إلى نتائج، وتحويل الاستقرار المالي إلى أثَرٍ تنموي ملموس، وتعميق دَوْر القِطاعات الإنتاجيَّة بوصفها محرِّكًا للنُّمو وفرص العمل، وهو تطلُّع يَقُوم على ثقة في مسار إصلاحي اكتسب صلابةً بالتَّجربة، وعلى قناعة بأنَّ الحصاد الحقيقي يُقاس بجودة ما يجنى واستدامته.. ويبدو عام 2026م امتدادًا طبيعيًّا لنهضةٍ تتجدَّد بوعي، نهضة تُراهن على الإنسان، وتستثمِر في الاقتصاد، وتُحسن قراءة المتغيِّرات، لِتجعلَ من الأمل الَّذي يُرافق البدايات وقودًا لمرحلة إنجاز أكثر رسوخًا واتزانًا.
إنَّ العام الجديد يفتح أمام البلاد مساحةً أوسع لقراءة موقعها الإقليمي والدّولي من زاوية أكثر طموحًا وثقة، خصوصًا ونحن في عالم تتسارع فيه التَّحوُّلات، وتُعاد فيه صياغة موازين القوَّة والمصالح، وفي وقت يدخل فيه الإقليم مرحلة سيولة سياسيَّة واقتصاديَّة، تتجاور فيها فرص التَّهدئة مع مخاطر الارتداد، بَيْنَما يشهد النِّظام الدّولي انتقالًا تدريجيًّا نَحْوَ تعدديَّة أكثر تعقيدًا، تتراجع فيها اليقينيَّات وتتصاعد فيها حسابات المصالح.. وفي هذا المشهد يبرز الطُّموح العُماني بوصفه طموحَ دَولةٍ اختارتْ منذُ وقتٍ مبكر أنْ تجعلَ من الاتِّزان رصيدًا، ومن السِّياسة الهادئة أداةَ نفوذٍ، ومن الاستقرار الدَّاخلي منصَّةً للانفتاح الاقتصادي والشَّراكات طويلة الأمد؛ لذا يطلُّ عَلَيْنا العام الجديد كفرصةٍ لتعظيم المكاسب، واستثمار الموقع الجغرافي، والدَّوْر السِّياسي، والسُّمعة الدبلوماسيَّة في تعزيز الحضور الاقتصادي واللوجستي والاستثماري.. وبهذا المعنى يدخل الأمل الَّذي يُصاحب بدايات الأعوام إلى نطاق أوسع، حيثُ يتحوَّل من شعور إنساني إلى خيار استراتيجي، يجعل من المستقبل مجالًا مفتوحًا لصناعةِ الفرص، لا انتظارها، ويضع عُمان في قلبِ التَّحوُّلات بوصفها دَولةً تعرفُ متى تتحرك؟ وكيف؟ ولماذا؟
وفي العام الجديد، يفرض الشَّأن الدّولي والإنساني نَفْسه بوصفه أحَد أكثر العناوين إلحاحًا، في عالم يزداد قسوةً وتباينًا، وتتعاظم فيه الفجوة بَيْنَ الخِطاب الأخلاقي والممارسة الواقعيَّة. فالمشهد العالمي يدخل عامًا جديدًا مثقلًا بالحروب، والأزمات الإنسانيَّة، وتراجع منظومة القِيَم الَّتي طالَما قدّمت بوصفها مرجعيَّة جامعة، حيثُ باتَ الإنسان في كثير من الجغرافيا هو الحلقة الأضعف في صراعات المصالح وحسابات القوَّة. ومع ذلك، يظلُّ الأمل حاضرًا بوصفه خيطًا رفيعًا يمنع انهيار المعنى، ويُعِيد التَّذكير بأنَّ جوهر الاحتفاء بالعام الجديد لا ينفصل عن التطلُّع إلى عالم أكثر عدالةً وتوازنًا.. وهنا يتجاوز الأمل بُعدَه العاطفي؛ لِيصبحَ نداءً إنسانيًّا لإعادة الاعتبار لقِيمة الإنسان، وحقِّه في الحياة والأمن والكرامة، بعيدًا عن ازدواجيَّة المعايير وانتقائيَّة التَّعاطف. فالعام الجديد يضع المُجتمع الدّولي أمام اختبار أخلاقي حقيقي؛ إمَّا الاستمرار في إدارة الأزمات بلُغة المصالح الباردة، أو البحث عن مقاربة أكثر إنسانيَّة تُعِيد للسِّياسة معناها، وللعلاقات الدوليَّة حدَّها الأدنى من العدالة، ويبقى الأمل فعلًا واعيًا، يرفض التَّطبيع مع الألَم، ويتمسَّك بإمكان أنْ يحملَ المستقبل مسارًا أقلَّ عنفًا وأكثر إنصافًا للبَشَريَّة جمعاء.