.. والثامنة: أن الحياة الدنيا قصيرة، وأنها لأهلها خادعة، كما في إحدى مرئيات الإسراء من رؤية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للدنيا كالمرأة التي عليها من الثياب ألوانًا، وأصنافًا، ومن الذهب والفضة أنواعًا، وأطيافًا، فلم ينظر النبي الكريم إليها، ولم يعرج عليها، ولما استفسر من أخيه جبريل عنها، أخبره أنها الدنيا الخادعة، وأنه إن كان نظر إليها فإن أمته ستميل إليها، وتنخدع بها، وستلعب بهم، وتلهيهم عن طريق الله، وعبادته، وسيغرهم زخرفها، وذهبها، وأموالها، وستصرفهم عن طاعات ربهم، وتبعدهم عن مولاهم، فالحمد لله أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينظر إليها، ولم يعرج عليها، فقد أخذ بأيدينا إلى سبيل ربنا، وطريق مولانا، وبصرنا بخداعها، وغرورها، وجعلنا أكثر معرفة، ووعيا بحبائلها، ومكرها بأهلها.
والتاسعة: أن نعلم أن الدعوة إلى الله مهمة شريفة، وأن الداعية لابد أن يربط قوله بفعله، وألا يفصل بين القول، والتطبيق؛ حتى لا يفتتن الناس بسلوكه، ويجعلون فاصلًا بين الكلام، والفعل، فقد رأى الرسول الكريم مرئية في المعراج، مؤداها أنه رأى رجلا في جهنم تنسكب أقتابه (أي: أمعاؤه) بين يديه في النار، يدور حولها كما يدور الحمار حول رحاه (في جهنم)، فيسأل الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تفسير تلك المرئية، فأخبره سيدنا جبريل ـ عليه السلام ـ أنه الرجل الداعية الذي يقول، ولا يفعل، ويدعو، ويأمر الناس إلى الخير والمعروف، ولا يأتيه، وينهاهم عن المعاصي، والسيئات، والمنكر، ويأتيه، أي يخالف قوله فعله، فاستحق أن يدور حول أمعائه في جهنم كما يدور الحمار حول رحاه، قال تعالى:(يَا أيُّها الذينَ آمنوا لِمَ تقولونَ مَا لا تَفعَلون، كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَنْ تقولوا مَا لا تَفعَلون) (الصف ٢ ـ ٣).
إنّ الذي يتفوه بالكلمة، ليس لها رصيد من الصحة والعمل، والتطبيق يكون لكلمته أثر باهت، لا وزن له، بل يكرس في وعي الناس أنه لا مانع من أن يقول الإنسان ما لا يفعله، وأنه يجوز الفصل بين الدعوة إلى الصلاح، ولا يفعله المرء، والنهي عن المنكر، ويفعله قائله، وهو ميزان مختل، وسلوك معتل، لأن المنطق القويم لا يفصل بين القول، والفعل، وأن فاعل ذلك غير عاقل، وأن صاحبه مجنون، مختل، مضطرب؛ ومن ثم فهناك مرئية أخرى تعزز ذلك القول، وهي أن الرسول الكريم وجد أناسًا تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت عادت كما كانت، ولا يخفف عنهم من شيء، فلما استفسر الرسول الكريم من أخيه جبريل عنها، أخبره أنها تمثل شريحة الدعاة الذين يقولون ما لا يفعلون، وتنطلق ألسنتهم بالشيء دون عمل له، وتتفوه بما لا يلتزمون به، فاستحقوا قرض (أي: قطع) ألسنتهم بمقاريض ضخمة من النار؛ جزاءً وفاقًا؛ لأنهم قد خالف قولهم فعلًا، وفتنوا الناس في دينهم، وأعانوا إخوتهم على قبح الصفات.
والعاشرة: ونختم مقالنا هذا بتلك الحكمة العاشرة التي نطق بها أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ عندما أخبر الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أتى بيت المقدس، وصلى فيه، وعرج به إلى السماوات العلا، وعاد لتوه، ولا يزال موضع نومه ساخنًا، وأنهم يضربون أكباد الإبل إلى المسجد الأقصى شهرًا إيابًا، ويعودون آيبين منه شهرًا آخر، فما كان من أبي بكر إلا أن سألهم سؤالًا واحدًا، هو:(هل قاله حقًّا، إن كان قال فقد صدق، نحن نصدقه في خبر الأرض أفلا نصدقه في خبر السماء)، قول أبي بكر ـ رضي الله عنه: نحن نصدقه في خبر الأرض أفلا نصدقه في خبر السماء، هذا القول منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو تعبير عن قوة إيمانه، وتصديقه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل ما جاء به، فعندما سُئل عن تصديقه لخبر الإسراء من مكة إلى القدس، ردّ (دون أدنى تردد) بأنّه يصدّقه في شيء أبعد من ذلك، وهو (خبر السماء) مما يظهر أن ما يُنقل من السماء (الوحي) أسهل تصديقًا له من الرحلة الأرضية، وأنّ يقينه بأنّ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتيه الوحي الإلهي يجعل خبر السماوات أمرًا طبعيًا بالنسبة له؛ ومن ثم فقد لقّبه الرسول الكريم بأبي بكر بـ(الصدّيق) بسبب تصديقه المطلق هذا، ومن لحظتها صار يعرف بالصديق، وهي صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بكسر الفاء، وتشديد الدال مكسورة، من الصدق، وتغلغله في دم صاحبه، وصيرورته معه في كل أحواله، واصطحابه في كل أقواله، وأفعاله، وهو كان كذلك حقًّا ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ وسيرته كلها تشهد له بذلك، فحبه للرسول، واعتقاد صدقه في كل ما بلغ، وعدم التردد لحظة في ذلك، هو دليل صدق الصحبة، وشارة إيمان صاحبه، فسيدنا أبو بكر لم يسمع بقول الرسول، ولكن عندما جاؤوا، وأخبروه بما قال:(وهو قول لا يدخل تحت عقولهم)؛ لأنه لم يقل:(سريت من نفسي)، وإنما سجل القرآن الكريم أن الله بعظمته هو الذي أسرى به، والله قادر على كل شيء، وكل أمر في كونه يحدث بـ(كن فيكون)، لكن أهل الشرك يتوقفون في ذلك، ويترددون في قبوله، حتى إنهم طلبوا من الرسول الكريم أن يصف لهم بيت المقدس، أو المسجد الأقصى، فرفعه له سيدنا جبريل ـ عليه السلام ـ فراح يصفه ركنًا ركنًا، وجدارًا جدارًا، وهم يتعجبون من دقة وصفه، وعمق صدقه، وإحاطة قوله، ومع ذلك ذهبوا إلى أبي بكر متعجبين من سرعة الرحلة ذهابًا وعودة، وفي ظنهم قدرتهم الضعيفة، لا قدرة الله القوي، القادر، المقتدر الذي يهيمن على كونه، ويمكنه نسفه في لا وقت، وبكلمة واحدة، هي (كن).
فالعقيدة الصحيحة تعتقد في صدق بلاغ الرسول الكريم عن رب العزة، وعدم التردد في أي حرف منها، وقبوله قبولَ تسليمٍ بأحداثه، واعتقادَ جازمٍ بصحته.
والحكمة الأخيرة هي في ثوابِ الجهاد في سبيل الله، وصرف النفس، والروح، وبيعها لله، وثواب ذلك عند الله، حيث رأى الرسولُ مرئية عجيبة، خلاصتها أن أناسًا يزرعون، وفي الوقت نفسه يحصدون، بمعنى أنهم في وقت زرعهم تخرج ثمارهم، ويقطفونها من فورها، فتعجب الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسأل أخاه جبريل ـ عليه السلام ـ عن تفسيرها، فأخبره أنهم المجاهدون في سبيل الله بأموالهم، وأنفسهم، وأن هذا ثوابهم يعجله الله لهم، بأن يقطفوا ثمار أعمالهم وقت فعلها ولحظة بذرها، وأنه لا وقت بين الفعل، والمكافأة؛ لأنهم جادوا بأسمى ما يملكون، وهي أرواحهم، وأنفسهم لله رب العالمين، فهم في جهادهم كانوا صادقين، ووضعوا أرواحهم على أكفهم؛ إرضاء لله، وابتغاء مرضاته، ورجاء عفوه، ومغفرته، ومكافأته، فجاءتهم المكافأة بأسرع مما يحلمون، وبالشكل الذي لم يكونوا يتصورون.
وهكذا هو شأن الجهاد، والمجاهدين، وهذا هو الفضل المبين لهم من رب العالمين، ونختم تلك المقاصد والأسرار والحكم، ونقر بأنها لا تنتهي، ونترك المجال لمن شاء أن يبرز بعضها، ويجلي باقيها، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية