لم تَعُدْ معاناة الأطفال في عالم اليوم استثناءً مرتبطًا بجغرافيا بِعَيْنها، أو نزاع هنا أو هناك؛ فقَدْ تحوَّلت إلى سِمَة عامَّة لعصرٍ مضطرب يُعِيد إنتاج الخطر كحالة يوميَّة في حياة الصغار. تقرير «يونيسف» عن عام 2025 يقدِّم صورةً قاتمة عن طفولة محاصَرة بالجوع والحروب والأمراض، حيثُ يعيش طفل من بَيْنِ كُلِّ خمسة أطفال داخل مناطق أزمات وصراعات، وهو رقم يكشف حجم الانزلاق الأخلاقي الَّذي وصل إليه النِّظام العالمي. والخطر هنا لا يقتصر على فقدان الغذاء أو الدَّواء، لكنَّه يمتدُّ إلى تهشيم فكرة الطفولة ذاتها بوصفها مرحلة أمان ونُمو واكتشاف؛ فأطفال كُثر ينامون على صوت القذائف، يستيقظون على القلق، تتشكل ذاكرتهم الأولى تحت ضغط الخوف وفقدان الاستقرار، وتتأخر أعمارهم النفسيَّة قَبل أعمارهم الجسديَّة. فهذه الوقائع تفرض قراءة أعمق من لُغة التعاطف، قراءة تسائل العالم عن معنى التقدُّم حين يعجز عن حماية أضعف حلقاته، وعن قِيمة الخطط الدوليَّة حين يُصبح الألم الطفولي رقمًا دَوْريًّا في تقارير سنويَّة تتكرر دُونَ أنْ يتغيَّرَ جوهر المشهد. ومن هذا المنطلَق، يَجِبُ أنْ يبدأَ السؤال الحقيقي عن مستقبل عالم يسمح بانهيار الطفولة على هذا النّطاق الواسع. ونحن نودِّع عام 2025، تبرز غزَّة بوصفها العنوان الأكثر قسوةً لانهيار الطفولة تحت وطأة الحرب والحصار، حيثُ لم يَعُدِ الجوع عارضًا إنسانيًّا طارئًا، وأصبح أداة ضغط مكتملة الأركان تُستخدم من قِبل المُجرِم الصهيوني بوعيٍ سياسي كامل. ذلك أنَّ إعلان المجاعة في أجزاء من القِطاع خلال صيف هذا العام يكشف أنَّ ما يعيشه الأطفال هناك نتاج قرار متعمَّد لا فشل إغاثي، فالحصار ومنع المساعدات وصناعة النُّدرة حوَّلتِ الغذاء إلى سلاح بطيء التأثير عميق الجرح. وأكثر من مئة ألف طفل يواجهون انعدامًا حادًّا في الأمن الغذائي رقم يحمل في طيَّاته ما يتجاوز الإحصاء إلى توصيف حالة تجويع جماعي تمارس أمام أنظار العالم. فالطفل في غزَّة يحاصَر في جسده، وفي وعيِه، ومستقبله وإحساسه بالعالم، يكبر على صوت الطائرات لا على ضحكة اللَّعب، ويتعلم مبكرًا معنى الانتظار القاسي للطَّعام والدَّواء! هنا تسقط كُلُّ محاولات التَّبرير الأخلاقي؛ فغزَّة تقدِّم المثال الأوضح على أنَّ الطفولة حين تقع بَيْنَ مطرقة الحرب وسندان السِّياسة تتحول إلى ضحيَّة صامتة يدفع ثَمَنَها جيل كامل، بَيْنَما يكتفي النِّظام الدّولي بتسجيل المأساة وتأجيل الفعل، ومحاسبة المُجرِم على جريمته. إنَّ هذا المشهد الكاشف يضع النِّظام الدّولي أمام امتحان أخلاقي عميق، امتحان فشل فيه مرارًا مع كُلِّ تقرير جديد وكُلِّ رقم يتضخَّم دُونَ فعل رادع. فالانتهاكات الجسيمة لحقوق الأطفال لم تَعُدْ حوادث متفرقة، فقَدْ تحوَّلت إلى نمطٍ متكرر يعكس خللًا بنيويًّا في منظومة الحماية الدوليَّة، حيثُ توثَّق الجرائم بدقَّة، وتُصاغ البيانات بلُغة منضبطة، ثمَّ يُترك الضحايا لمصيرهم. وفي غزَّة كما في مناطق أزمات أخرى، يعرف العالم حجم الجريمة وتفاصيلها، ويملك الأدوات القانونيَّة والسياسيَّة لوقفها، ومع ذلك يختار الاكتفاء بِدَوْر المراقب، هذا التناقض بَيْنَ وضوح الحقيقة وغياب القرار يفرِّغ مفهوم العدالة من مضمونه، ويحوِّل القانون الدّولي إلى أرشيف شهادات لا آليَّة إنقاذ! والأخطر أنَّ هذا الصَّمتَ يبعثُ برسالة مدمِّرة إلى الأطفال أنْفُسهم، مفادُها أنَّ حياتهم قابلة للتأجيل، وأنَّ حقوقهم خاضعة لميزان المصالح والتحالفات.. عِندَ هذه النقطة تتجاوز المأساة بُعدها الإنساني لِتصبحَ أزمة ثقة في فكرة النِّظام العالمي ذاتها، نظام يعرف كيف يعدُّ الضحايا، ولا يعرف كيف يحميهم. أمام هذا الواقع يُصبح الحديث عن حماية الأطفال اختبارًا حقيقيًّا لصدقيَّة العالم لا لبلاغته. فالتقارير والتحذيرات فقَدَتْ قدرتها على إحداث الصَّدمة، وتحوَّلت إلى جزء من المشهد المعتاد، وإنقاذ الطفولة اليوم أضحى مسألة إرادة سياسيَّة وشجاعة أخلاقيَّة في تسمية الجرائم ومحاسبة مرتكبيها، وفي مقدِّمتهم المُجرِم الصهيوني الَّذي حوَّل غزَّة إلى مختبر مفتوح لتجويع الأطفال وكسر مستقبلهم. وعليه، فإنَّ استمرار هذا النَّهج يُراكم خسارةً أعمق من عدد الضحايا، خسارة الثِّقة في العدالة الدوليَّة، وفي فكرة أنَّ للإنسان قِيمةً متساويَّة أيْنَما وُجد، فالأطفال الَّذين يكبرون تحت الحصار والجوع والعنف يحملون ذاكرة مثقلة، وهذه الذَّاكرة ستَعُود يومًا ما إلى واجهة العالم في صورة أزمات جديدة وعدم استقرار ممتد. إنَّ حماية أطفال غزَّة، وأطفال النِّزاعات عمومًا، ليست فِعلَ شفقةٍ، ولا بندًا إنسانيًّا ثانويًّا، لكنَّه استثمار مباشر في أمن العالم ومستقبله؛ فالطفولة الَّتي تُترك اليوم فريسةً للحرب ستَعُود غدًا شاهدةً على إفلاس نظام عرف الحقيقة، واختار الصَّمْت.