الاثنين 29 ديسمبر 2025 م - 8 رجب 1447 هـ
أخبار عاجلة

الترجمة في العراق وآفاق المعرفة في العصر الحديث (4 -6)

الترجمة في العراق وآفاق المعرفة في العصر الحديث (4 -6)
الاثنين - 29 ديسمبر 2025 01:00 م

تنشر «الوطن» في ست حلقات، كتابا جديدا للكاتب العراقي “وليد الزبيدي” بعنوان “الترجمة في العراق وآفاق المعرفة في العصر الحديث”.


يختلفُ العراقُ معرفيًّا عن كثيرٍ من الدول العربيّة، فالمعرفةُ، ومعها الترجمةُ، لم تقتصرْ على اللغة العربيّة فقط، وبقدر ما نجدُ التنوّعَ في اللغات والترجمات، فإنّ ميادينَ المعرفة تزخرُ بالكثير من هذا وذاك. وعند الحديث عن الترجمة في العصر الحديث في العراق، لا بدّ من الذهاب إلى بداياتها في العصر العبّاسي، والتوقّف سريعًا عند أهمّ محطّات الترجمة، ولا سيّما أنّ مدينةَ بغداد كانت المحطّة الأبرز على هذا الصعيد، كما أنّه من الصعب جدًّا التوقّف عند سقفٍ زمنيٍّ محدّد في مجالي المعرفة والترجمة.

وفي صفحات الكتاب وقفةٌ عند كلّ لغةٍ في بلاد الرافدين: الترجمةُ من العربيّة وإليها، والكرديّة، والتركمانيّة، والمندائيّة، والترجمةُ في اللغة السريانيّة.

ويواجهُ المتصدّي لمثلِ هذا الموضوع العديدَ من الصعوبات، فالإحاطةُ الوافيةُ ليست سهلة، لكنّ ما يقدّمه الكتاب في صفحاته إنّما هو إضاءاتٌ لا بدّ منها على منجزِ المترجمين والحقولِ التي عملوا فيها.

الترجمة في اللغة السريانية

لعب المترجمون السريان دورًا مهمًا في الثقافة العربية والاسلامية، فقد تحملوا عبء ترجمة الأعمال البارزة في الفلسفة الإغريقية إلى اللغة العربية، وكان المسلمون قد فتحوا بلاد ما بين النهرين، ووجدوا فيها بلدًا منظمًا تنظيمًا جيدًا على مستوى الديانة المسيحية، فهناك أسقف في كل مدينة من المدن الكبيرة مثل أربيل ونصيبين وكركوك وتكريت والحيرة وغيرها، ويقف الأسقف على رأس أبرشية تضم عددًا كبيرًا من الناطقين باللغة السريانية( ).

ويقول مؤلف كتاب (الفلاسفة والمترجمون السريان): بدأ الخليفة المنصور خلال فترة حكمه تدشين عملية الترجمة إلى العربية وقام بتوظيف المترجمين في حاشيته. ومع الوقت أصبحت هذه المهنة وظيفة رسمية من وظائف البلاط؛ لكن كان هناك نقص في الكتب اليونانية وغيرها؛ لذا وجدنا الخليفة يرسل بعثة إلى مدينة القسطنطينية برسالة منه إلى الامبراطور البيزنطي طالبًا فيها تزويده بعدد من الكتب اليونانية، واستجاب الامبراطور لهذا الطلب، فطلب الخليفة من المترجمين نقلها إلى العربية على الفور( ).

وزودنا ابن جلجل في كتابه طبقات الانباء والحكماء بقائمة ضمت اسماء هؤلاء المترجمين والكتب التي نقلوها إلى السريانية ثم إلى العربية. وفعل ابن النديم الشيء نفسه، حيث وضع في كتابه (الفهرست) قائمة ببيلوجرافية بأسماء الكتاب والمترجمين السريان الذين كانوا يتقنون العربية، وبفضل هؤلاء نقلت بعض كتب افلاطون إلى العربية ومن بينها (الجمهورية) و(نصيحة لتربية الشباب) و(الميتافيزيقا) و(الكون والفساد) و(فن الشعر)( ).

ورغم انتشار العربية فإن السريانية بقيت نشيطة في المشرق حتى القرن الثالث عشر، وازدهرت خصوصًا في العصر العباسي، حيث لعبت السريانية من خلال المترجمين العراقيين دورًا فعالًا في تطوير اللغة العربية؛ لكن شعلتها بدأت تنطفئ بعد الغزو المغولي للعراق والمشرق وسقوط بغداد؛ حيث أصابت السريانية ضربة كبيرة بعد دخول العراق في الحقبة المظلمة؛ لكن السريانية بقيت كلغة طقسية في الكنائس السريانية الشرقية والغربية في المشرق العراقي الشامي وفي عموم العالم. ونصب السريان أول مطبعة لهم بالحروف السريانية في لبنان سنة 1610 حيث طبع كتاب (المزامير) في حقلين متقابلين أحدهما باللغة العربية بحروف كرشونية (حروف عربية وبلغة سريانية) والآخر باللغة السريانية( ).

وبدأت نهضة جديدة للثقافة السريانية في بداية القرن العشرين، ومن معالمها صدور الصحف الناطقة بالسريانية والعربية، وبواكيرها الأولى صحيفة (مرشد الآثوريين) وصدرت في منطقة الجزيرة عام 1908م. ثم صحيفة (كوكب الشرق) عام 1910م في ديار بكر لنعوم فائق. وبطبيعة الحال فقد اهتمت هذه الصحف بنشر ترجمات كثيرة من اللغات الاخرى إلى السريانية وفي مختلف ميادين المعرفة والثقافة والفكر( ).

بعد استقلال العراق سمح بتدريس السريانية في المدارس الأهلية التي تديرها الكنيسة وأستمر الأمر حتى عام 1968م، وفي عام 1970م وافقت الحكومة العراقية على إقامة مجمع علمي للغة السريانية صنوا لمجمع اللغة العربية في بغداد. واستمر المجمع ما يقرب من عشر سنوات ثم أدمج في جسم المجمع العلمي العراقي وأمسى قسمًا من أقسام المجمع الخمسة باسم دائرة اللغة السريانية. وفي عام 1972م صدر قانون يعطي حقوقًا للناطقين بالسريانية. وفي عام 1973م أقيم في العراق مهرجان أو بالأحرى مؤتمرٌ عالميٌ بمناسبة مرور (1600 سنة) على وفاة العلامة والشاعر (مار أفرام) السرياني ومرور (800 سنة) على وفاة الحكيم الطبيب (حنين بن إسحق العبادي) الذي ألَّف في الطب والكحالة أكثر من (30) كتابًا باللغتين السريانية والعربية كما ترجم أكثر من (50) كتابًا ومقالة عن السريانية واليونانية. وأصدر المجمع عام 1974م مجلدًا يضم معظم البحوث والكلمات باللغات العربية والسريانية والفرنسية والانكليزية( ).

ويقول الباحث والمترجم كوثر نجيب( ): أقدم نص أدبي آرامي معروف هو (قصة أحيقار)، الحكيم الآرامي التي لا تزال شذرات منها محفوظة على البردي من القرن الخامس ق. م. أما العمل نفسه، الذي يتكون من إطار روائي ومجموعتين من الامثال، فهو لا ريب أقدم من هذا بكثير. لقد تمتعت القصة بشعبية كبيرة على مر القرون، وتمت ترجمتها إلى مختلف اللغات، فقد ترجمت منذ القديم، إلى المصرية واليونانية، ثم ترجمت في العصور الوسطى إلى عدد كبير من اللغات( ).

وفي عهد العباسيين في بغداد برزت إلى الوجود نهضة علمية قام بها أطباء شهيرون كان الخلفاء يستخدمونهم في بلاطهم، فليس في اللغة العربية كتاب مستخرج من اليونانية دون أن يكون للسريان فيه يد وسعي. ثم أن السريان الشرقيين نقلوا أيضا كتبا بهلوية (فارسية) إلى اللغة السريانية، مثل كتاب كليلة ودمنة ورواية اسكندر الكبير( ). وقد نتجت الترجمات السريانية الأولى –كما يقول أحد الباحثين الغربيين- من الحركة العلمية التي نشأت في بلاد ما بين النهرين في القرنين الخامس والسادس من التاريخ المسيحي. وجاءت الترجمات الأولى حرفية ركيكة تنافي ذوق آداب السريان، وتشوّه جمال لغتهم؛ لكن نهضة العلوم في بلاد ما بين النهرين التي ابتدأت في القرن التاسع بمعاضدة الخلفاء تدل على عصر نجاح وتقدم( ).

أسماء بعض المترجمين:

من أبرز المترجمين من السريانية قديمًا: ساويرا، سابوخت جرجيس اسقف العرب، حنين بن اسحق وابنه اسحق، وحنا بن البطريق، واسطيفان بن باسيل، وقسطا بن لوقا، واسطاث، وعبد المسيح بن عبد الله بن ناعمة الحمصي، وابراهيم بن بكوس وابنه علي، أبو زكريا دنحا الجَدِلُ النظّار، ويحيى بن عدي، وأبو علي عيسى بن زرعة البغدادي، ويعقوب الرهاوي، وعنانيشوع الحديابي( ).

وفي العصر الحديث برزت شخصيات أخرى: كالقسيس جبرائيل قرداحي (1845–1931م)، والمطارنة طيموثاوس إرميا مقدسي (1847–1929م)، وتوما أودو (1855– 1918م) وأوجين منا (1928م) ، والمطرانان فيلكسينوس يوحنا دولباني وبولس بهنام والقسيس إسحق أرملة، وغيرهم( ).

وليد الزبيدي

كاتب عراقي

[email protected]