الاثنين 29 ديسمبر 2025 م - 8 رجب 1447 هـ
أخبار عاجلة

الجيل الجديد وعلاقته بالوظيفة الآمنة

الجيل الجديد وعلاقته بالوظيفة الآمنة
الاثنين - 29 ديسمبر 2025 08:03 ص

محمد عبد الصادق

20


قضى والدي ـ رحمه الله ـ أربعين عامًا في الوظيفة الحكوميَّة في نفس الجهة والمكان من سنة 1960 وحتَّى العام 2000، حتَّى خرج للتقاعد، وعلى دربه حصلتُ على وظيفة حكوميَّة في نهاية الثمانينيَّات، مكثتْ بها (16) عامًا، قَبل أن أقرّر السفر للخارج وقضاء (22) عامًا في نفْس الوظيفة، ولكنِّي كافحت للحفاظ على الوظيفة الحكوميَّة، أملًا في الحصول على معاش تقاعدي، وحفاظًا على الإرث الَّذي تركَه لي والدي بتقديس الوظيفة الحكوميَّة، قَبل أن تظهر سياسات الهيكلة وضغط الإنفاق الَّتي جعلت أصغر موظف حكومي عمره خمسين عامًا، كما أنَّ معاش التقاعد الَّذي حقَّق الأمان المعيشي لوالدي، الَّذي ظلَّ يُتيه علينا عندما نحاول مساعدته، بالنقود الَّتي تملأ (محفظته) وتمكّنه من العيش الكريم.

ابني الَّذي ولد عام 2000، تخرَّج منذ (3) سنوات من كليَّة مرموقة، ولكنَّه تنقَّل بَيْنَ أكثر من وظيفة، ومستعد أن يترك عمله لأسباب أراها أنا (تافهة)، وكنتُ أتخيَّل أنَّها أسباب تتعلق بنجلي؛ كونه وحيدًا ومدللًا، ويجد أبًا مثلي، ينتزع منه ما يحتاج من مال، سواء كان يعمل أو عاطلًا، فهو يرى أموالي كلأ مباحًا، ولكنِّي اكتشفتُ أنَّ كثيرًا من أبناء جيله، لا يمكثون في وظيفة أكثر من ثلاث سنوات، وأنَّ هناك مصطلحًا ظهر بَيْنَهم يُدعى «كارير شفت»، وهو يعني تغيير التخصُّص والمهنة والاتِّجاه لوظيفة بعيدة تمامًا عن سابقتها.

هذا الجيل لا يُعير اهتمامًا للولاء الوظيفي، والأولويَّة لدَيْهم للراتب الأعلى، ويرون أنَّ الردَّ الوحيد على تسريح الشركات لموظفيها، وتدنِّي الأجور، وظروف العمل الطاردة، هو «كارير شيفت»، وهي لُغة جيلي لا يستوعبها، ويرى أنَّها ضد الأمان الوظيفي، ولا تناسِب شابًّا يسعى لتكوين أُسرة وتأسيس بيت، في زمن لا يرحم، أصبحت المادَّة أساس كُلِّ شيء، أعرف زيجات انهارت وأطفالًا تركت مدارسها، بسبب فقْد الأب وظيفته، حتَّى لو كان ذلك لمدَّة محدودة، فقد انقرضت الزوجة الَّتي تصبر على ضيق العيش.

كما انتهى زمن ارتباط الوظيفة بالتخصُّص الدراسي، فنرى اليوم طبيبًا أو بيطريًّا يعمل مسوِّقًا في شركة أدوية، وفي مصر آلاف من خريجي الجامعات يعملون سائقين على التطبيقات، سواء متفرغين أو بجانب مهنتهم الأصليَّة الَّتي تكفي متطلباتهم.

هذا الجيل يرى أنَّ الاستقرار في منطقة الراحة (وظيفة مستدامة) يُعَدُّ نوعًا من القصور الذَّاتي، يصيب بحالة من التكلُّس والخمول والركود، ويؤثِّر بالسلب على مستقبله، جيل «قلبه جامد» لم يَعُدْ يخشى القلق أو الضغط النفسي والعاطفي الَّذي يعيشه الموظف الَّذي ترك وظيفته وجلس في البيت، يبحث عن وظيفة جديدة بعيدة عن تخصُّصه.

لا أعرف، هل الجيل الجديد على صواب؟ أم مخطئ في كفره بمبدأ «الاستقرار الوظيفي»؟ فهو ضحيَّة التقلُّبات الدراماتيكيَّة الَّتي أصابت سوق العمل، انقرضت مِهن، وظهرت أخرى، لا ندري إلى متى يستمر وجودها؟ فاليوم نسمع عن ازدهار «الأي آي» وانخفاض أسهم البرمجة، ووفرة في خريجي الصيدلة وطب الأسنان، وعجز في الأطباء والتمريض، وكانت مهنة الصحافة والإعلام مزدهرة حتَّى ظهور الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فلم يَعُدْ أحد يقرأ الصحف، وهناك إحصائيَّة تقول إنَّ (80%) من الشَّباب أقلّ من أربعين عامًا لا يشاهدون التليفزيون، وتحوَّلوا إلى المنصَّات الرقميَّة، يتابعون محتواهم المفضل في الوقت المناسب لهم، وتحوَّلت الإذاعة إلى محطَّات غنائيَّة على موجة «إف إم» فلم يَعُدْ أحد يتابع الأخبار والبرامج الإذاعيَّة، مثلما كان الحال قَبل عشرين عامًا.

محمد عبد الصادق

[email protected]

كاتب صحفي مصري