الأحد 28 ديسمبر 2025 م - 7 رجب 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : إعادة تشكيل السوق وبناء اقتصاد أكثر نضجا

الأحد - 28 ديسمبر 2025 03:41 م

رأي الوطن

10


يُقرأ التوجُّه الحكومي لتحفيز تحويل الشركات من محدودة المسؤوليَّة إلى شركات مساهمة مقفلة بأنَّه قرار اقتصاديّ يُعِيد ترتيب بنية السُّوق، ويُعِيد تعريف مفهوم النُّمو المؤسَّسي؛ ذلك أنَّ إطلاق البرنامج التحفيزي لسوق رأس المال يعكس إدراكًا بأنَّ التحدِّي في المرحلة المقبلة يرتبط بشكل الكيان الاقتصادي، وقدرته على الاستمرار والتوسُّع داخل بيئة تنافسيَّة منظَّمة. كما أنَّ التحوُّل إلى شركات مساهمة مقفلة يضع الشركة داخل إطار أوسع من الشفافيَّة والمساءلة، ويفتح أمامها مساحات نُمو تتجاوز حدود الملكيَّة الضيِّقة، ويمنحها قدرة أكبر على التعامل مع التمويل والشراكات بوصفها أدوات تطوير لا مجرَّد حلول طارئة.. فهذا المسار يؤسِّس لانتقال واعٍ من نموذج إدارة يعتمد على الجهد الفردي إلى نموذج مؤسَّسي قادر على الاستدامة، ويعكس توجُّهًا لبناء سوق أكثر نضجًا تَقُوده شركات قادرة على التوسُّع المنظَّم والتفاعل مع متطلبات الحوكمة الحديثة؛ لِيصبحَ التحوُّل المؤسَّسي جزءًا من إعادة تشكيل عقليَّة السوق ذاتها، وبناء قاعدة اقتصاديَّة أكثر صلابة وقابليَّة للنُّمو طويل الأمد.

وتأتي حزمة الحوافز المعلنة كترجمة عمليَّة لهذا التوجُّه المؤسَّسي، حيثُ صُمّمت الأدوات التحفيزيَّة لتغيير سلوك الشركات ودفعها نَحْوَ النُّمو المنظَّم، لا لتقديم دعم مؤقت؛ فالإعفاء الجزئي من ضريبة الدخل، والمسار السريع للتمويل عَبْرَ بنك التنمية، والأفضليَّة السعريَّة في المناقصات، تُشكِّل معًا منظومة جذب متكاملة تستهدف الشركات القادرة على التوسُّع وتحمُّل متطلبات التحوُّل، فالتصميم يعكس فهمًا دقيقًا لطبيعة القرار الاستثماري، حيثُ تُقاس الجدوى بوضوح الرؤية واستقرار البيئة التنظيميَّة بقدر ما تُقاس بحجم الحوافز، وتوجيه الحوافز نَحْوَ كيانات مؤهلة يُعزِّز الثقة في السوق ويشجِّع على إعادة هيكلة الشركات وفْقَ أُسُس ماليَّة وإداريَّة أكثر انضباطًا.. بهذه المقاربة تتحوَّل الحوافز إلى أداة ضبط وتوجيه، ترفع كفاءة السوق، وتدفع رأس المال نَحْوَ شركات تمتلك قابليَّة حقيقيَّة للنُّمو والمنافسة، وتدعم في الوقت ذاته بناء سوق رأس مال أكثر عمقًا وقدرة على استيعاب مراحل التطوُّر القادمة. ولعلَّ الأثر الأعمق لهذا المسار التحفيزي يتجلَّى في تعزيز مفاهيم الحوكمة والشفافيَّة داخل بنية الشركات، حيثُ يفرض التحوُّل إلى شركات مساهمة مقفلة أنماطًا أكثر انضباطًا في الإدارة والإفصاح واتِّخاذ القرار، وهو ما يدفع الشركات إلى العمل داخل أُطُر تنظيميَّة واضحة، ويُعزِّز الامتثال، ويحدُّ من العشوائيَّة الَّتي ترافق في كثير من الأحيان الهياكل المغلقة، فاعتماد معايير الحوكمة ينعكس مباشرة على الاستقرار المالي، ويمنح الشركات قدرة أعلى على التخطيط طويل الأمد، ويُعزِّز ثقة الشركاء والمموِّلين والمستثمِرِين في سلامة الأداء واستدامته؛ لتتحوَّلَ الشفافيَّة من التزام شكلي إلى عنصر إنتاجي يرفع كفاءة الإدارة ويُقلِّل المخاطر، ويُسهم في بناء بيئة أعمال أكثر توازنًا بَيْنَ حماية السوق وتشجيع الاستثمار، ويوازي هذا المسار تطوُّر في كفاءة المنشآت الرقابيَّة، حيثُ تصبح الرقابة أداة تنظيم ذكيَّة تدعم النُّمو المنظَّم، وتواكب توسُّع الشركات بدل أنْ تُشكِّلَ عبئًا على نشاطها، بما يخدم في النهاية تطوير سوق رأس المال الوطني وتعزيز متانته.

إنَّ اشتراط حدٍّ أدنى لرأس المال، والالتزام بنِسَب التعمين، والامتثال الضريبي، يعكس توجُّهًا واعيًا نَحْوَ إعادة فرز السوق وبناء قاعدة شركات قادرة على النُّمو الحقيقي لا على البقاء الشكلي، فهذه الشروط لا تستهدف تقليص عدد الشركات، وإنَّما تهدف إلى رفع جودتها وتعزيز قدرتها على الاندماج داخل منظومة اقتصاديَّة أكثر تنافسيَّة واستدامة، كما أنَّ اعتماد هذا المسار يُسهم في توجيه الموارد نَحْوَ كيانات تمتلك مُقوِّمات الاستمرار، ويحدُّ من التوسُّع غير المنظَّم، ويخلق بيئة أعمال أكثر توازنًا بَيْنَ الطموح والقدرة التنفيذيَّة، ويتكامل دَوْر الحوافز مع متطلبات الانضباط، لِتتشكلَ طبقة جديدة من الشركات المتوسطة القويَّة القادرة على الانتقال التدريجي إلى مراحل أوسع داخل سوق رأس المال. وهو ما يدعم مستهدفات التنويع الاقتصادي، ويُعزِّز ثقة المستثمر المحلِّي والدولي، ويؤسِّس لسوق أكثر عمقًا ونضجًا، يَقُوده نُمو مؤسَّسي مستقر، ويخدم في محصِّلته النهائيَّة استدامة الاقتصاد الوطني وقدرته على مواجهة التحوُّلات القادمة بثقة.