يعيش الباحث عن عمل حالة من الضغط النفْسي والإحباط المتراكم؛ بسبب مرور الأعوام وإهدار السنوات واستنزاف العمر، وهو في حالة بحث عن وظيفة تُحقِّق له تطلُّعاته وتُغْنيه عن الاعتماد على والدَيْه، وتفتح له طريق الزواج وبناء منزل وأُسرة وتشعره بالاستقلاليَّة وبقِيمة المواطنة، والانخراط في فئة العاملين المنتِجِين والمساهِمِين المشارِكِين في بناء الوطن... إذ يشهد الواقع ارتفاعًا متواصلًا ونُموًّا مقلقًا في أرقام الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين، ومعهما ترتفع وتيرة الضغوط على مؤسَّسات الدَّولة المختلفة، وتتزايد مظاهر الجريمة وصوَرها وأشكالها والتمزُّق الأُسري وإفرازات الفراغ ومساوئه الكثيرة وليس أقلّها تعاطي المخدّرات والمُسْكرات، ويتزايد الخوف على الأمن والاستقرار، هذه الأرقام في تبدلات متواصلة وتختلف من إحصائيَّة مؤسَّسة إلى أخرى، الاتِّفاق بَيْنَها أنَّها في تزايد متواصل. إنَّ تعقيدات المُشْكلة وضيق نطاق الحلول والمعالجات تفرضها المُعوِّقات والصعوبات الواسعة المرتبطة بثقافة العمل ـ تشبُّع مؤسَّسات القِطاع العام من الموظفين ـ الوضع الاقتصادي الَّذي تمرُّ به المنطقة وتذبذبه؛ بسبب اعتماده شِبه الكُلِّي على عائدات النفط ـ ضعف الرواتب والامتيازات في القِطاع الخاص، وما يواجهه هذا القِطاع أصلًا من مشاكل وصعوبات وهشاشة وضعف في بنيته، ومحدوديَّة السُّوق واعتماده على الدَّعم الحكومي، والَّذي تتزايد متاعبه مع تراجع أسعار النفط... ولحساسيَّة هذه القضيَّة وارتباطها بأمْنِ واستقرار الوطن وسعادة وازدهار المواطن، فلا بُدَّ من التحرك العاجل لمعالجتها؛ لخطرِها البالغ على المُجتمع، وما يترتب عنها من إهدار وتعطيل للطَّاقات الَّتي يتمتع بها شباب الوطن والَّتي يفترض توظيفها وإشراكها بقوَّة في عمليَّة البناء والتطوير ودفع عجلة التنمية والحفاظ على ما تمَّ إنجازه وتنفيذه من مشاريع وخطط وبرامج مختلفة، فهي من المشاكل العويصة الَّتي تستمدُّ تعقيداتها وعُمقها واستمراريَّتها من الأعداد الكبيرة من الباحثين عن عمل الَّتي تتراكم عامًا إثر عام دُونَ انفراج واضح أو حلول ناجعة ومُرْضية لجميع الأطراف تمتصُّ هذه الأعداد من الباحثين الَّتي تضخُّها إلى سوق العمل مؤسَّسات التعليم بمختلف مستوياته وتخصُّصاته ومراحله، وهو ما يضع الجميع أمام مسؤوليَّات كبيرة تقتضي توحيد الجهود لبحثِ مختلف جوانب المُشْكلة من حيثُ آثارها وأسباب تفاقمها ومـدى انتشارها واتساعها، ومراجعة الأفكار والخيارات المطروحة والتفكير العميق في البدائل والمجالات الَّتي من شأنها خلق فرص عمل حقيقيَّة لا مصطنعة، محفِّزة على الإنتاج الفعلي لا معطِّلة له، وربطها بسياسة التعليم والتدريب، ومراجعة السياستين التعليميَّة والتوظيف بشكلٍ عام... هذا المشهد الماثل أمامنا، بما يُمثِّله من مخاطر وإشكالات تتطلب من المؤسَّسات المتخصِّصة تَبنِّي العديد من الأفكار والرؤى الكفيلة بإحداث نشاط تجاري وسياحي وصناعي وثقافي، وإقامة فعاليَّات متعدِّدة ومشاريع منتِجة وتحديث البرامج والسياسات ذات الصلة بسوق العمل وأطرافه، لتوليد فرص وظيفيَّة تتَّسم بالتنوُّع والتجديد، وإقامة المشاريع الَّتي من شأنها أن تعدَّ الفرد إعدادًا مهنيًّا ومعرفيًّا وتهيِّئه لسُوقِ العمل بقِطاعاته ومجالاته الواسعة، وفْقَ جملة من المسارات تقوم على: أولًا: النظر واتِّخاذ الخطوات العمليَّة لتعمين الوظائف القياديَّة والإشرافيَّة والفنيَّة والإداريَّة... في جميع المؤسَّسات الخاصَّة والحكوميَّة وإشغالها من قِبل قيادات عُمانيَّة تحمل التخصُّصات والكفاءات والخبرات الَّتي تؤهلها لشغلِ الوظائف الَّتي يتبوأها أجانب وفْقَ آليَّات تُحقِّق هذه الغاية. ثانيًا: تتوافر في سُوق العمل مِهن فنيَّة تدرُّ دخلًا وفيرًا لِمَن يمتهنها ويتمكن منها مثل: الكهربائي، السباكة، النجارة، الميكانيكي، صيانة الأجهزة الكهربائيَّة والإلكترونيَّة، تقنيَّة المعلومات من صيانة وبرمجة وتصميم وغيرها ما زالت تعتمد اعتمادًا شِبه كُلِّي على العمالة الأجنبيَّة، وقد حان الأوان للعمل على تهيئة وتوعية وتدريب وتوجيه عددٍ من الباحثين من مخرجات الدبلوم العام وما دُونَه لشغلِ هذه المِهن، أو التَّوجُّه نَحْوَ إنشاء شركات صغيرة ومتوسِّطة ومكاتب متخصِّصة في صيانة المباني والمنشآت والسيَّارات بمختلف أنواعها ودرجاتها، تعتمد على العنصر الفنِّي العُماني. ثالثًا: دراسة سُوق العمل المحلِّي دراسة مستوفية تهدف إلى التعرف على احتياجاته، وتبيّن النواقص في مجال الخدمات والاستشارات والإنشاءات والقِطاعات والمكاتب المختلفة الَّتي قد تكُونُ شِبه معدومة وتحتاج لها سلطنة عُمان والمُجتمع وتعتمد عليها القِطاعات الأخرى الرئيسة وتكُونُ هذه الخدمات مكملة ورافدة وداعمة لها. رابعًا: إجراء دراسات متخصِّصة للمهن المرتبطة بقِطاعات الزراعة وصيد الأسماك والحِرف التقليديَّة المختلفة، والعمل على إعادة وتنظيم هيكليَّتها وتطويرها ودعمها لِكَيْ تُشكِّلَ عائدًا حقيقيًّا للعاملين فيها، وإنشاء شركات ومصانع حكوميَّة أو بشراكة مع القِطاع الخاص، تعتمد عليها في التصنيع والتسويق لِكَيْ توفِّر فرص عمل جديدة، ويُمكِن الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا المجال. فاليوم نسمع ونتابع عن أجانب يستأجرون المزارع الخاصَّة للاستثمار، ويستأجرون عن طريق الطناء جميع نخيل «المبسلي» ويقومون بعمليَّات التبسيل، ما يؤكِّد ربحيَّة هذه الأعمال. خامسًا: إنشاء شركات مساهمة على مستوى المحافظات، تدخل الحكومة ورجال الأعمال والشركات الكبيرة وصناديق التقاعد والمستثمرون الصغار في كُلِّ محافظة مساهمين فيها، للقيام بدراسة الفرص المتوافرة واستغلال الثروات الموجودة وتطوير وتنمية القِطاعات والمجالات المتيسرة من زراعة وثروة حيوانيَّة وصيد وصناعة ومحاجر ومعادن ومواقع سياحيَّة وتجارة وحِرف ومهن مختلفة.. وتطوير وتشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة والصناعات والمشاريع المختلفة القائمة على الإمكانات المتوافرة في كُلِّ محافظة، وتحريك النشاط التجاري وإنشاء مكاتب استشاريَّة لتقديم الرأي والخبرات والاستشارات والعون للباحثين عن عمل لتبني مشاريع صغيرة وتوفير فرص عمل جديدة، وتوفير بيئة مشجِّعة للتفكير والإبداع والاستقطاب والمنافسة. سادسًا: التفكير الجدِّي في إنشاء أسواق مركزيَّة في المحافظات وأُمَّهات المُدن تتخصص في مجالات مختلفة السيَّارات المستعملة، الأسماك، الفواكه والخضراوات، المواد الاستهلاكيَّة، المنتجات الحِرفيَّة وغيرها من المواد والسلع يديرها الشَّباب العُماني، وذلك على غرار الأسواق العربيَّة القديمة تهدف إلى تحريك النشاط التجاري وتوفير مجالات استثماريَّة وفرص عمل وتنشيط للقِطاع السياحي، وتمكين هذه الأسواق من تنظيم أنشطة وفعاليَّات وبرامج قادرة على تجديد وتفعيل وتطوير أنشطتها وجذب المستهلك والزائر والسائح إليها. سابعًا: تنشيط ودعم وإنشاء المؤسَّسات والفعاليَّات والأنشطة والبرامج والمعاهد الثقافيَّة والأدبيَّة والفنيَّة والإعلاميَّة من مسرح وسينما ودراما وفنون مختلفة ترتبط بها، وتقديم أعمال فنيَّة بارزة، ثم الترويج لها وتسويقها، والعمل على تطوير هذا القِطاع الخامل غير الموظَّف والَّذي يرتبط بالكثير من الخدمات والتخصُّصات والأنشطة الاقتصاديَّة، ويوفِّر موارد ماليَّة مجزية وفرص عمل مختلفة، خصوصًا في حال انتشاره واتساعه وتطوُّر ثقافته، وهو من القِطاعات الَّذي تعتمد دول كثيرة عليه كمصدر أساسٍ من مصادر دخلها، الهند وتركيا، مثالًا، وأشرتُ إلى هذا المحور في مقالات سابقة وفي حلقة خاصَّة عَبْرَ برنامج «البث المباشر» قَبل توقُّفه، مسنودة بالأرقام والمؤشِّرات والحقائق. ثامنًا: إجراء تقييم شامـل لمخرجـات التعليم العـام والعالي والتعليم التقني وذلك على ضوء :
• الدراسات الَّتي أجريت بهذا الشأن .
• ملاحظات القِطاعين الخاص والعام حَوْلَ تقييم أداء وإنتاج الموظَّف العُماني.
• ملاحظات مجلس الشورى الخاصَّة بمناقشاته مع وزراء العمل، التجارة، التعليم العالي والتربية والتعليم .
• مستوى التحصيل ونتائج الاختبارات .
• تقييم المناهج ووسائل وطُرق التعليم .
تاسعًا: إجراء تقييم شامل لمعاهد وبرامج التدريب في السَّلطنة، والعمل الفوري على تطوير هذه البرامج والمعاهد لِتتمكنَ من تقديم تدريب فاعل وجيِّد يهيئ العُماني للمنافسة في سُوق العمل محليًّا وإقليميًّا. عاشرًا: تحديث وتطوير ورفع كفاءة البنية الأساسيَّة من طُرق ومطارات واتصالات والنقل العام والخدمات الأخرى المتعددة، ومراجعة وتقييم ووضع الأنظمة والقوانين الَّتي من شأنها تشجيع وجذب الاستثمارات الأجنبيَّة في السَّلطنة، وإقامة المشاريع الاقتصاديَّة وتطوير القِطاعات السياحيَّة والصناعيَّة والزراعيَّة وغيرها بهدف توفيـر المزيد من فرص العمل. حادي عشر: إضافة مادَّة في المناهج الدراسيَّة تختصُّ بترسيخ وتعزيز قِيَم العمل والقدرة على تحمُّل المسؤوليَّة وتشجِّع الطلبة على الابتكار والانخراط في سُوق العمل والاعتماد على النفْس وتبني أفكار استثماريَّة ومقترحات بناءة. ثاني عشر: تطبيق سياسة توجيه الطلبة خلال المراحل الأولى من الدراسة وفقًا لتوجُّهاتهم ومستواهم التعليمي وتحصيلهم الدراسي ومدى رغبتهم في المواصلة من عدمه إلى معاهد مهنيَّة وبرامج تدريبيَّة تمكِّنهم من احتراف مهنة شريفة والحصول على فرصة عمل كريمة وذلك اعتمادًا على رغبتهم وقدراتهم، مع تكثيف برامج التوعية الَّتي من شأنها تعريف وإعداد الطلبة لمستقبلهم وفقًا لميولهم ورغباتهم. ثالث عشر: يعاني السُّوق المحلِّي بمُكوِّناته وصناعاته والمشتغلين فيه من عيوب وخلال تعمقت عَبْرَ عقود من الزمن تمثلت في نُمو التشييد والبناء وفتح الأسواق والمؤسَّسات والمحال التجاريَّة يقابله ضعف متواصل للقوَّة الشرائيَّة ـ نُمو وتسيُّب عمالة غير مهيَّأة وغير متعلمة لم تحصل على أيِّ نوع من التأهيل والتدريب تسببت في ارتفاع نِسَب التجارة المستترة والعمل في أيِّ مهن لكسبِ لقمة العيش، وأضرَّت بالسُّوق كثيرًا ـ إقرار الضرائب والرسوم ونُموها والتَّخلِّي تدريجيًّا عن الدَّعم الَّذي تحظى به الشركات والمؤسَّسات، خصوصًا الصغيرة والمتوسطة أدَّى إلى إنهاكها وخنقها، فالكثير منها أعلن عن الإفلاس والإغلاق والتسريح، مع أنَّ هذا القِطاع يُعَدُّ عماد الاقتصاد في الدول الأخرى ـ فوضى منح الرُّخَص لفتح مشاريع ومحالّ وأعمال جديدة تخلو من دراسات الجدوى والقدرة على الاستمرار والنُّمو من عدمه، وبحث المشاريع المشابهة في ذات المنطقة والمكان؛ لضمان عدم المنافسة والتسبب في إغلاق مشروع يدخل في ذات التخصص، وفي فوضى الإغلاق والفتح وهكذا دواليك، وفي تسريح العُمانيين ـ ضعف السيولة والاستثمارات الأجنبيَّة والخبرات الماهرة وعدد السيَّاح قاد إلى فشل وخسارة وإغلاق عددٍ من الأعمال والمتاجر والصناعات... وهو ما يفرض العمل السريع على إصلاح هذه العيوب وتنظيم عمل الأسواق في البلاد، فلا يُمكِن بأيِّ حال من الأحوال معالجة مُشْكلة الباحثين والمسرَّحِين إلَّا بالاشتغال الصَّادق والجادِّ على هذه الأفكار، وتفعيلها وتنشيط الأسواق والصناعات وتحريك الأعمال التجاريَّة، والاستثمار في القِطاعات الَّتي تُحقِّق التنوُّع وتوفِّر الوظائف، وتطوير التعليم وبرامج التدريب، الضامنين مخرجات قادرة على المنافسة محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا. أخيرًا: تَبنِّي برامج حواريَّة وتوعويَّة في مختلف المستويات تجمع الباحثين عن عمل ورجال الأعمال والخبرات والنماذج الناجحة في مجال الأعمال والجهات الحكوميَّة المختصَّة لتعزيز الثقة ومعالجة المشاكل، وتوفير بيئة عمل صالحة وترسيخ صورة إيجابيَّة عن العمل في القِطاع الخاص وتقديم نماذج لنجاح العُماني في هذا القِطاع، ومن المناسب تخصيص قناة تلفزيونيَّة باِسْمِ (قِيَم العمل) أو (العمل والاستثمار). فالعديد من المظاهر والإشكالات والإحباطات المُجتمعيَّة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسياسات التوظيف وارتفاع أعداد الباحثين عن عمل.
سعود بن علي الحارثي