تَحُلُّ ذِكْرَى الإسراء والمعراجِ بعد أيام، وهي من كُبْرَيَاتِ أحداث الإسلام، وفيها دروسٌ عظامٌ، وحِكَمٌ غوالٍ، جِسَامٌ، ومن خلالها انكشف كثير من شخوص المجتمع المكي، ومَحَّصَتْ لنا كثيرًا من القلوب، وكانت ذات مقاصد جُلَّى، وقيم عظمي، ومراءٍ وضَّحَتْ للرسول الكريم مستقبلَ الأمة، وما يجب عليها تجاه دينها، ورسولها، وكتابها، ورسالتها.
وسنعرِّج هنا على تلك المقاصد، والأسرار، وتلك الحكم، والقيم، والمعاني الغزار، مع حدث الأحداث، ومعلم من أكبر معالم الإسلام، هو حدث الإسراء، والمعراج، الذي كشف لنا عن جلال الإسلام، وكمال تشريعاته، وعناية الله بنبيه، ورسوله، وبين كيف أن الإسلام يحترم جميع الأديان، ويصلي، ويسلم على كل أنبياء الله، ورسله، ولا يجوز للمسلم أن يفرق بين أحد منهم، وعليه أن يؤمن بهم جميعًا، ولا يقدح في أحد منهم، ويعظم شأنهم عندما يتحدث عنهم، ويوقرهم جميعًا، ولا يجوز أن ينتقص من قدر أحد منهم، صلوات الله، وتسليماته عليهم أجمعين.
وأولُ تلك المقاصد والأهداف: أن تلك الرحلة السماوية، وهي الإسراء والمعراج جاءت للتسرية، والتخفيف عما أصاب الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) في رحلته إلى الطائف، وخروج القوم عليه، وعدم الإيمان به، وسوق غلمانهم، وصبيانهم عليه، فضربوه بالحجارة حتى أدموا قدميه الشريفتين، فاستدعاه الله لرحلة علوية، قدسية، ما نالها أحد من الأنبياء، لا من قبل، ولا من بعد، وكانت من الله مباشرة لرسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) وتعني أنه إن كان أهل الأرض قد ضايقوك، وأتعبوك، وما أحسنوا استقبال دعوتك، فإن رب الأرض، والسماء يستدعيك ليخفف عنك، ويربط على قلبك، ولن يخذلك أبدًا، فإذا كان أهل الأرض قد نبذوك، وأحزنوك، فإن رب الأرض، والسماء، وما فيهن قد اشتاقوا إليك، وقدروك، وهم في انتظار تشريفك بلقاء رب الأرضين، والسموات، في احتفائية سماوية، ورحلة علوية، فاقت كل الحدود، وجاءت فوق كل الظنون، والتوقعات، احتفاء ربانيٌّ، سماويٌّ، لا مثيل له.
والثانية: أنها كانت رحلة ربانية، روحية، شرعت من خلالها أهم عبادات الإسلام، وهي الصلاة، فكل الفروض أرضية (شرعت، وفرضت على الأرض)، إلا شريعة الصلاة، فقد فرضت في السماء؛ لتتناسب مع غاياتها، وتتضاهى مع قدسيتها، وما تبقيه من أثر في النفس، والقلب، معه، والأحاسيس، والسلوك، والتعامل، ولتبقى معراج المؤمن إلى ربه، تصله بمولاه في أي زمان شاء، وفي أي مكان رغب، وهي مفتاح الوصول، وطريق استنزال الرضا، والعون، والاستقامة، وحسن الصلة، ولكي ننزلها نحن منزلتها ،ونعتني بها كل العناية، فهي الفريضة الوحيدة التي فرضت في السماء، فلا بد أن تكون سامية، كأصل تشريعها، ومكانه، ويلزم أن تكون فوق الرؤوس وفي القلوب، والعيون، وفي الأفئدة، والأرواح: اهتمامًا، واعتناء، إقامة، وأداء، وتفكيرًا، واذكارًا.
والثالثة: أن الإسراء يبين طلاقة القدرة، وأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مؤيد من ربه، وأنه محوط بعنايته، وحسن رعايته، كما تشي بمكانة الرسول على إخوانه من الأنبياء، والرسل ـ عليهم السلام ـ جميعًا، في أنه الرسول الوحيد الذي احتفت به السماء، وأرسلت إليه، واصطحبه رئيس الملائكة المزكَّى من قِبَلِ ربه، وهو سيدنا جبريل ـ عليه السلام ـ ومضى معه طوال الرحلة حتى سدرة المنتهى، ثم تركه قائلًا:(تقدم أنت؛ لأنك إن تقدمت أنت اخترقت، وأنا إن تقدمت احترقت).
فقد بَيَّنَتِ الرحلة قدرة الله التي لا توصف، ومكانة الرسول، ومنزلته التي لا يعرفها حق المعرفة إلا خالقه، ومولاه، وإلهه؛ حيث جاء في جملة الهدف منها قوله تعالى:(لِنُريَه من آياتنا..)، والتي قيل فيها:(لقد رأى من آيات ربه الكبرى)، على اختلاف علماء التوجيه النحوي في إعراب الكبرى: هل هي صفة مجرورة لآياته، أو هي مفعول به للفعل (رأى)، وأيًّا ما كان إعرابها ففيها كناية عن علو منزلته، وسمو مقامه، وعمق حب ربه له، ووده لربه:(وإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيم).
والرابعة: بيان أحداث الحياة، وثواب الأعمال، وخصوصًا الكلمة الطيبة، والجهاد في سبيل الله، وعقاب مانعي الزكاة، وخطباء السوء، والعواصف الهوج التي سيتعرض لها الإسلام من الديانات الأخرى، وقيمة الدنيا، وخداعها، ونقاء الإسلام، وصفاؤه، وعدم تعشقه للدماء، وكذلك فوائد اعتقاده، وكمال اتباعه، وجلال الدفاع عنه، وقد فسرت المرائي التي حدثت للرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل تلك الأحداث، وبصرته بمستقبل الأمة، وخطورة مسلك الدعاة الآمرين بما لا يفعلون، وأثر الكلمة الساقطة على صاحبها، وعلى المجتمع، وأفراده، وكل مكوناته، وعناصره.
والخامسة: ريادة الرسول(صلى الله عليه وسلم)، وإمامته على العالمين، وكل أنبياء الله أجمعين، بدءًا من أبينا آدم، حتى أخر نبي، والصلاة بهم في المسجد الأقصى إمامًا هي مبايعة منهم جميعًا، وإقرار له بالإمامة، والفضل، فصلاته بهم، وإمامته لهم هي إعلان بأنه قدوة الأنبياء، وأسوة الرسل، وخاتم رسل الله إلى خلقه، وانضوائهم خلفه، وأن ذلك تشريف لهم. والسادسة: أنه قد بَيَّنَ أن الإسراء، والمعراج هو طبيعة الإسلام، وجلال أحكامه، وأنها يسيرة لكل متبعيه: صغارًا، وكبارًا، شبابًا، وشيبًا، رجالًا، ونساءً، وأن الجميع يمكنهم، ويسهل عليهم القيام به، والنهوض بتكاليفه، دونما عناء، أو تعب، أو مشقة، وأن تشريعاته كلها صالحة، ومصلحة لكل زمان، ومكان، وميسرة لكل من على الأرض من إنسان، وأن اليسر هو سمتها، والاستطاعة من الجميع أساسها، وأنه دين الوضوح، واليسر، والمحبة، وليس فيه أدنى تعب، أو نصب، أو مشقة، بل يسر ومودة.
والسابعة: أن الإسراء والمعراج بين أن الإسلام له وراثة المساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي، وأنها وراثة حقيقية، لا يمكن لأحد النقاش حولها، فقد انتقل الرسول الكريم من المسجد الحرام، إلى المسجد الأقصى، وصلى بالأنبياء جميعا فيه، وعرج منه إلى المعراج، والسموات العلا، وسدرة المنتهى، وهو إقرار بدخوله في حوزة المسلمين، وضمن ممتلكاتهم، يقومون بحراسته، والصلاة فيه، وخدمته، وإقامة الخطب، والندوات، والمحاضرات، والمؤتمرات العلمية، والفكرية فيه، وأنه كان المبتدأ في الرحلة الإيمانية من المسجد الحرام (الكعبة المشرفة)، ونهايتها في المسجد الأقصى (بيت المقدس، والقدس الشريف)، وصلاته بجميع الأنبياء هي إعلان بالولاء، والوراثة الحقيقية، وهي وراثة ربانية للمسلمين، عليهم أن ينهضوا لها، وبها، ويقومون بحقها، ومتطلباتها، وكل ما يتعلق بالمسجد الأقصى، وحمايته، قال تعالى:(سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير)، وقد اختار الله هذين المسجدين؛ ليتنقل المسلم من طهر إلى طهر، ومن عبادة إلى عبادة، ومن طاعة وصلاة إلى طاعة، وصلاة، فتكون حياته كلها طاهرة، وتنقلاته بالإيمان عامرة، وحياته ملأى بالروح الطيبة التي هي بحب العبادة غامرة، وببيوت الله الكبرى مباركة، موصولة، طاهرة.
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية