تنشر «الوطن» في ست حلقات، كتابا جديدا للكاتب العراقي “وليد الزبيدي” بعنوان “الترجمة في العراق وآفاق المعرفة في العصر الحديث”.
يختلفُ العراقُ معرفيًّا عن كثيرٍ من الدول العربيّة، فالمعرفةُ، ومعها الترجمةُ، لم تقتصرْ على اللغة العربيّة فقط، وبقدر ما نجدُ التنوّعَ في اللغات والترجمات، فإنّ ميادينَ المعرفة تزخرُ بالكثير من هذا وذاك. وعند الحديث عن الترجمة في العصر الحديث في العراق، لا بدّ من الذهاب إلى بداياتها في العصر العبّاسي، والتوقّف سريعًا عند أهمّ محطّات الترجمة، ولا سيّما أنّ مدينةَ بغداد كانت المحطّة الأبرز على هذا الصعيد، كما أنّه من الصعب جدًّا التوقّف عند سقفٍ زمنيٍّ محدّد في مجالي المعرفة والترجمة.
وفي صفحات الكتاب وقفةٌ عند كلّ لغةٍ في بلاد الرافدين: الترجمةُ من العربيّة وإليها، والكرديّة، والتركمانيّة، والمندائيّة، والترجمةُ في اللغة السريانيّة.
ويواجهُ المتصدّي لمثلِ هذا الموضوع العديدَ من الصعوبات، فالإحاطةُ الوافيةُ ليست سهلة، لكنّ ما يقدّمه الكتاب في صفحاته إنّما هو إضاءاتٌ لا بدّ منها على منجزِ المترجمين والحقولِ التي عملوا فيها.
الترجمة في اللغة المندائية
في تعريفه باللغة المندائية واهم خصائصها، يقول الدكتور قيس مغشغش السعدي: المندائية ديانة رافدينية... ليس هنالك تأريخ محدد لظهورها، ولا شخص مؤسس لها، وقد اختصت بلغة سميت على اسمها (اللغة المندائية)، ويشار إلى أنها الفرع النقي من الآرامية الشرقية التي تقوم على اللغة الأكدية، كما أن للغة المندائية أبجدية خاصة بها( ).
لم تكن من حاجة لترجمة الكتب المندائية يوم كانت لغتهم هي لغة الحديث واللسان، خاصة وأن هذا الفرع من اللغة الآرامية كان هو لسان العراقيين في بلاد بابل وكل الجنوب العراقي؛ لذلك نجد إلى الآن المئات من المفردات الشائعة في اللسان العراقي عامة والجنوبي خاصة هي من المفردات الموثقة في القاموس المندائي( ).
وازداد الاهتمام بالترجمة من المندائية وإليها بسبب المخاوف من انقراض هذه اللغة، التي "تعد بكل المقاييس لغة مهددة بالانقراض. وإنه من المؤسف حقا أن تكون هذه النتيجة بأسباب الإهمال التام الذي أصابها في وطنها الأم العراق. ولا يتحدث اللغة المندائية من المندائيين البالغ عددهم في جميع أنحاء العالم حوالي 60000 نسمة أكثر من 100 شخص. يشكل رجال الدين نسبة 40% تقريبًا منهم بحكم أن الطقوس الدينية المندائية التي يجريها رجال الدين تتم باللغة المندائية؛ لكن هؤلاء أنفسهم لا يتحدثون اللغة المندائية في بيوتهم ولا حتى فيما بينهم أثناء تلاقيهم. ومن عامة المندائيين في العراق لا يتحدثها أكثر من 10 أشخاص"( ).
والترجمة في المندائية نوعان: الأول ما كان شفويًا لغرض التعريف، ونعتقد أن هذا بدأ أولا تأسيسا على ما ورد عند الصابئة المندائيين في كتيب صغير يسمى (ديوان هران كويثا: حران السفلى)، حيث يذكر أن الصابئة المندائيين يترأسهم رئيسهم المسمى (أنش بر دنقا) قابل القائد الإسلامي بعد دخول الإسلام وعرفه بديانة الصابئة المندائيين وتعاليمهم فأقرهم على دينهم تأسيسًا على ورود ذكرهم في القرآن الكريم. ولا شك أن (أنش بر دنقا) قام بالترجمة من اللغة المندائية إلى اللغة العربية أو اعتمد مترجمًا لذلك( ).
أما الترجمة التحريرية المكتوبة فنرى – كما يقول د قيس السعدي- أن أول مبادرة فيها ربما تعود إلى ما ذكره ابن النديم في كتابه الفهرست من أن الفيلسوف الكندي "نظر في كتاب يقر به هؤلاء القوم، وهو مقالات في التوحيد". وهذا يظهر أن الفيلسوف الكندي 185- 256ه،ـ كان على معرفة بلغتهم فقرأ وترجم وحكى وثبت، فنقل عنه تلميذه أحمد بن الطيب السرخسي. ولا نعثر بعد ذلك على إشارات لترجمات موثقة.
وحين دخل المنصرون البرتغاليون العراق عن طريق البصرة تعرفوا إلى المندائيين في منتصف القرن السادس عشر الميلادي وحاولوا استمالتهم لكسبهم للديانة المسيحية ووظفوا البعض منهم معهم، وحين أتقنوا اللغة البرتغالية ترجموا لهم جوانب في تعاليم الديانة المندائية. ثم اطلعوا على كتبهم وطقوسهم وعرفوا أنهم ديانة مستقلة وقديمة. وقد قاموا بنقل بعض كتبهم إلى أوربا، وهناك بدأت عملية الترجمة للاطلاع على هذه الديانة. ويذكر أن أول الكتب المندائية التي وصلت إلى روما هو ديوان (حران السفلى)؛ فقد ترجم إلى اللاتينية في منتصف القرن السادس عشر. وفي عام 1652م وضع إغناطيوس كتابًا تعريفيًا عن المندائيين في روما. وفي العام 1815م قام السويدي (نوربرغ) بترجمة كتاب المندائيين الديني (كنزا ربا) إلى اللغة اللاتينية، وقد أخذت على هذه الترجمة مآخذ عدة حتى أنها لم تعتمد من قبل الأكاديميين.
في عام 1854م زار المستشرق الألماني (هنرك بيترمان) المندائيين في سوق الشيوخ وعايشهم لأشهر وتعلم لغتهم ونقل معه بعض كتبهم وخاصة كتابهم (كنزا ربا: الكنز العظيم). وبعد عودته قام بنسخ الكتاب بيده وسعى لترجمته ولكنه لم يكمله، لكنه فتح فتحًا كبيرا في الإقدام على معرفة اللغة المندائية وترجمتها، وفي العام 1867م وضع ترجمة لكتاب (قلستا)، وهو كتاب للأدعية والصلوات والزواج باللغة الألمانية، ثم قامت الليدي دراور بترجمة الكتاب أيضا إلى اللغة الإنكليزية عام 1959م.
وفي عام 1875م وضع (ثيودور نولدكه) كتابه القيم (قواعد اللغة المندائية) باللغة الألمانية وفيه ترجمات لنصوص من لغتهم. وكتب هذه النصوص بالحرف العبري لإمكان قراءته ومعرفته من قبل الباحثين، وفي العام 1889م وضع (وليم براندت) كتابه (الدين المندائي) باللغة الألمانية واعتمد الكثير من النصوص المندائية وبخاصة من كتاب (كنزا ربا) الذي سعى لترجمته ولكنه توقف، وفي العام 1894م ترجم (هنري بوكنون) بعض نصوص التعاويذ المندائية إلى اللغة الفرنسية، وقام في عام 1898م بترجمة نصوص عدد من (القحوف)( ) المندائية المكتشفة والتي عادة ما تدفن عند عتبات البيوت طردًا للشر. وبعده حذا كثيرون حذوه في ترجمة هذه القحفيات إلى لغات متعددة منها العربية.
وحققت الترجمة عن اللغة المندائية طفرة كبيرة بإقدام عالم الساميات (مارك ليدزبارسكي) على ترجمة كتاب (يحيى) إلى اللغة الألمانية في العام 1915م، ومن ثم كتاب الأدعية المندائية في العام 1920م، والأهم هو ترجمته الكاملة لكتاب كنزا ربا في العام 1925م. وفي بداية ثلاثينات القرن العشرين تعرفت الباحثة الإنكليزية الليدي دراور على المندائيين وتعايشت معهم وشاهدت طقوسهم ووثقتها تفصيلًا وتعلمت لغتهم وسجلتها صوتيًا. وإليها يرجع الفضل في نقل مجموعة كبيرة من الكتب والدواوين المندائية التي سجلت باسمها في جامعة أوكسفورد وقامت بترجمة أغلبها، كما قامت بوضع القاموس المندائي وقد ساهم معها البروفسور (رودولف ماتسوخ) عام 1963م.
في ستينات القرن العشرين قام (رودولف ماتسوخ) بزيارة المندائيين في إيران ووثق لهجة خوزستان المندائية باعتبارها المندائية الحديثة Neo-Mandaic ووضع كتابه عن اللغة المندائية باللغة الإنكليزية، وفي عام 1967م، زار المتخصص الألماني (كورت رودولف) العراق وكتب عددًا من المؤلفات عن المندائية بالألمانية والإنكليزية وترجم ديوان نهرواثا (الأنهار) من المندائية إلى الألمانية. وتأسيسًا على ترجمات النصوص المندائية إلى الألمانية والإنكليزية قام الكثير من الباحثين والأكاديميين بترجمتها إلى لغات أخرى منها: العبرية والروسية والإيطالية والتركية والفارسية والإسبانية.
ومع أن الصابئة المندائيين يعيشون في العراق وإيران؛ ولكن لم تظهر ترجمات لكتبهم وتعاليمهم إلى اللغة العربية ولا إلى اللغة الفارسية من قبلهم ولا حتى من قبل آخرين. ويعزى ذلك - كما يقول الدكتور قيس السعدي- للأسف لعدم الإهتمام بتأسيس مراكز بحث وعدم وجود رعاية لدراسة هذه الديانة وموروثها أكاديميا، فلم يظهر متخصصون فيها وبلغتها، وكان يعتمد على معرفة رجال الدين في اللغة لبعض الشروحات، حتى أقدمت المندائية الأستاذة (ناجية غافل المراني) على تقديم بعض ترجمات نصوص من الكتب المندائية إلى اللغة العربية وثبتت ذلك في كتابها (مفاهيم صابئية مندائية) الذي صدر ببغداد عام 1981م.
وحينما شعر المندائيون بضرورة ترجمة كتابهم المقدس (كنزا ربا) إلى العربية اضطروا للاستعانة بالدكتور يوسف متي قوزي، وهو مسيحي مع مساعدة مندائية فتمت ترجمة الكتاب في عام 2001م. وكان قد قام بصياغتها اللغوية الشاعر المندائي المعروف عبد الرزاق عبد الواحد( ). ومتزامنا مع هذه الترجمة قدم (كارلوس كلبرت) وهو مندائي ترجمة عربية للكتاب قامت على ترجمته (ليدزبارسكي) باللغة الألمانية. وفي السنة نفسها تمت ترجمة كتاب (تعاليم يحيى) من قبل أحد المندائيين وهو الأستاذ (أمين فعيل حطاب).
أما في إيران فقد جهد المندائيون هنالك في الترجمة أيضا إلى اللغة الفارسية وترجموا كتاب ( كنزا ربا) لكنه لم يطبع في دار نشر وإنما بقي محدودا ومقصورًا عليهم، وهكذا فعلوا مع عدد من الكتب المندائية الأخرى. وممن قاموا أو أسهموا بترجمات من المندائية إلى العربية غير من تقدم ذكرهم: الكنزبرا الشيخ دخيل الشيخ عيدان، والكنزبرا الشيخ نجم الشيخ زهرون، والربي الشيخ رافد عبد الله، والكنزبرا الشيخ سلوان شاكر، والدكتور صبيح مدلول، والدكتور صباح مال الله.
وليد الزبيدي
كاتب عراقي