ليستِ الأزمة الَّتي اندلعت داخل غرفة أخبار شبكة «سي بي إس» الأميركيَّة هذا الأسبوع سوى مجرَّد عرض لمرضٍ عضال يفتُّ في عضد الصحافة والإعلام عالميًّا، وليس فقط أميركيًّا. وإن كانت الأعراض في أميركا تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب أكثر وضوحًا وفجاجة. الموضوع باختصار أنَّ رئيسة تحرير الأخبار، المُعيَّنة حديثًا بعد استيلاء شركة عائلة لاري أليسون على الشبكة وشركتها الأُم «باراماونت»، حذفت تقريرًا من حلقة برنامج «60 دقيقة» كَيْ لا تغضبَ إدارة ترامب. قامت المراسِلة الَّتي أعدَّتِ التقرير بفضح الأمر، خصوصًا وأنَّ التقرير خضع لأكثر من تدقيق تحريري وقانوني وتقرَّر أنَّه سليم مهنيًّا. وبرنامج «60 دقيقة» هو أشْهَر وأهمُّ برنامج إخباري في الولايات المُتَّحدة، يوازيه برنامج «بانوراما» في «بي بي سي» ببريطانيا.
منذُ دخول الرئيس ترامب البيت الأبيض مطلع العام وهو عازم على «تصفية» حساباته الشخصيَّة مع كُلِّ مَن يُعارضه، ومن بَيْنِ ذلك الصحافة والإعلام الحُر الَّذي لا يكاد يمرُّ يوم إلَّا ويكيل له الاتهامات والانتقادات، بل وأحيانًا الإهانات المباشرة الَّتي تخرج عن حدود الأدب العام وليس فقط الكياسة السياسيَّة، وتصل إلى حدِّ التشهير الَّذي يجرِّمه القانون. تمكنتْ إدارة ترامب من إغلاق المنافذ الإعلاميَّة المهنيَّة الَّتي تَقُوم على تمويل حكومي، لكنَّ بقيَّة الإعلام شركات خاصَّة لا تملك الحكومة إغلاقها. فلجأ ترامب إلى رفع دعاوى بالمليارات على كُلِّ صحيفة أو شبكة تنتقد سياسات إدارته مستخدمًا القضايا كورقة ضغط لإخضاع أصحاب المنافذ وضمان عدم معارضته. كما توسَّعتْ عائلة ترامب ورجال المال الموالون له في الاستيلاء على منافذ الإعلام في عمليَّات دمج واستحواذ، وفي مقدِّمة هؤلاء ثالث أغنى ثري في العالم ومموِّل حمَلات ترامب لاري أليسون. وفي أحدَث تلك المحاولات أنَّ شركة أليسون تقدَّمتْ بعَرضٍ عدائي لشراء «وارنر براذرز/ديسكفري»، الَّتي تملك مجلة «تايم» وغيرها بعدما اتفقتْ شركة «نتفليكس» على شراء «وارنر».
ليس ترامب وأهله وعشيرته استثناءً في محاولة تكميم الصحافة والإعلام بالترهيب أو بشراء المنافذ لضمانِ ولائها. فقد سبقهم كثيرون في بلدان مختلفة. إنَّما ما تَقُوم به الإدارة الأميركيَّة له صدى أوسع؛ لأنَّه يضع سوابق لكثيرين في دول الغرب. وليستِ الحملة على «بي بي سي» من قِبل قوى اليمين واليمين المتطرف في بريطانيا إلَّا ترديدًا لِمَا يجري في أميركا. إنَّما الخطر الأكبر هو أنَّ كُلَّ ذلك يشجِّع على انهيار الصحافة أمام التلفيق والتزييف والتضليل على مواقع التواصل. ويعتمد التيَّار اليميني المتطرف وبعض القوى العنصريَّة في البلدان الَّتي توصف بأنَّها «ديموقراطيَّة» على مواقع التواصل وأمثالها لترويج أفكارهم وإقناع الرأي العام بالأكاذيب في مقابل الصحافة المهنيَّة. لكن لأنَّه من الصعب حتَّى الآن القضاء على كُلِّ الصحافة الجادَّة والرصينة، ومع بقاء بعض منافذ هنا وهناك، تحاول تقديم إعلام يستهدف الصالح العام وإن لم يوازن تمامًا كم التضليل والدَّس عَبْرَ مواقع التواصل فإنَّ الحملة تزداد شراسة في أميركا والغرب وكثير من أنحاء العالم؛ لضمانِ انهيار الصحافة بمعناها التقليدي.
لا غرابة في أنَّ الرئيس ترامب وعائلته وعشيرته من الأثرياء يستهدفون ما يُسمَّى الإعلام الرَّقمي بقوَّة. فالرئيس نفْسه أسَّس شركة تملك موقعه للتواصل «تروث سوشيال» الَّذي يستخدمه في حمَلاته الانتقاميَّة. وتوسَّعتْ استثماراتهم في كُلِّ مجال للإعلام الرَّقمي أحيانًا باتفاقيَّات تمويل من أثرياء منطقتنا. وأحدَث تلك الجهود الاستيلاء على تطبيق «تيك توك» الصيني من قِبل مستثمِرِين أميركيين وغيرهم يعدُّون من «أهل وعشيرة» ترامب. وأهميَّة التطبيق الَّذي يعتمد الفيديوهات القصيرة أنَّه أصبح تقريبًا مصدرًا أساسيًّا للمعلومات للأجيال الشَّابَّة الجديدة. وبالتَّالي يُمكِن لِمَن يملك التطبيق أن يدسَّ ما يريد من زيف وتضليل بما لا تستطيع الصحافة الجادَّة والمهنيَّة مقاومته وفضح كذبه. ليس انهيار الصحافة إذًا، إنَّها فقط تواجه منافسة قويَّة وشرسة من مواقع التواصل، أو لأنَّ العاملين في المهنة تدهورتْ قدراتهم، إنَّما لأنَّ الحملة على الصحافة والإعلام المهني أصبحتْ ما يُشبه الحرب الَّتي تشنُّها أقوى الحكومات في العالم.
تتصور تلك الحكومات، وقوى اليمين المتطرف والعنصري، أنَّها بانهيار الصحافة تكسب ساحة تشكيل الرأي العام وتَضْمن سيطرتها وهيمنتها دُونَ معارضة ذات قِيمة. إنَّما الخطر الَّذي لا يُدركه هؤلاء أنَّه بغياب الصحافة المهنيَّة الحقيقيَّة لن يكُونَ الضَّرر قاصرًا على معارضيهم، بل على المُجتمع ككُلٍّ، وسيأتي اليوم الَّذي يكُونُون هم فيه ضحايا انهيار الصحافة. بالضبط كما لا يُمكِنك أن تستخدم الديموقراطيَّة للوصول إلى السُّلطة ثم تعمل على انهيار الديموقراطيَّة كَيْ لا يتمَّ تداوُل السُّلطة مع غيرك. هذا ما فعله الفاشيون في إيطاليا والنازيون في ألمانيا قَبل نَحْوِ قرن في أوروبا. وكانتِ النهاية كارثيَّة، ليس فقط على البلديْنِ، بل على كُلِّ أوروبا والعالم. إنَّ ما يجري الآن من محاولات تتصدى لها حكومات ودول ومُوَالُوها من الأثرياء للقضاء على الصحافة والإعلام في ظلِّ شعارات برَّاقة باِسْمِ «صحافة المواطن» و»حُريَّة مواقع التواصل» وغيرها من التلفيقات ما هو إلَّا مقدِّمة لتطوُّر ما هو أبشع من الفاشيَّة والنازيَّة. ولن يوفِّرَ هذا التطوُّر الكارثي أحدًا، وأوَّلُهم مَن يظنُّون أنَّهم سيتحكمون في تشكيل أدمغة الجمهور والعامَّة بمواقع التواصل وتطبيقات الوَهْمِ الرَّقمي.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري