جاءتِ استضافة مسقط لاتِّفاق تبادُل الأسرَى في اليمن تجسيدًا عمليًّا لثوابتِ الدبلوماسيَّة العُمانيَّة الَّتي تشكَّلتْ عَبْرَ عقودٍ من العمل الهادئ، والابتعاد الواعي عن منطق الاستقطاب، هذا الدَّوْر الَّذي يُقرأ كامتدادٍ طبيعي لرؤية عُمانيَّة ترَى في الإنسان نقطة البداية لأيِّ مسار سياسي قابلٍ للحياة؛ لذا فمِن الطَّبيعي أنْ يتقدَّمَ البُعد الإنساني في المقاربة العُمانيَّة على الحسابات الآنيَّة، ويُقدَّم تخفيف المعاناة كمدخلٍ لبناء الثِّقة، لا كملفٍّ هامشي يُستدعى عِندَ تعثُّر السِّياسة. فالثَّوابت العُمانيَّة في هذا السِّياق واضحة، تَقُوم على احترام سيادة الدوَل، والحفاظ على قنوات التَّواصُل مع جميع الأطراف، وتغليب لُغة التَّهدئة على منطق التَّصعيد، مع التَّمسُّك بِدَوْر الوسيط النَّزيه القادر على جمع المتناقضين دُونَ أنْ يتحوَّلَ إلى طرف.. هذه المعادلة الصَّعبة، الَّتي تجمع بَيْنَ الثَّبات والمرونة، منحتْ مسقط مصداقيَّة تراكميَّة، وجعلتها منصَّة موثوقة حين تتعقَّد الملفَّات وتغيب البدائل، وهو ما يُفسِّر حضورها المتكرر في محطَّات إقليميَّة حسَّاسة، واليوم في الملفِّ اليمني الإنساني تحديدًا. امتداد المفاوضات المتعلِّقة باتِّفاق تبادُل الأسرَى في اليمن، على مدار الفترة من التَّاسع إلى الثَّالث والعشرين من ديسمبر 2025، يعكس قِيمة المسار التَّفاوضي بوصفه عنصرًا حاسمًا في إنضاج أيِّ اتِّفاق إنساني؛ فهذا الامتداد الزَّمني كان مؤشِّرًا على وجود إرادة تفاوضيَّة واعية تُدرك أنَّ الملفَّات الإنسانيَّة المُعقَّدة تحتاج إلى صبرٍ سياسيٍّ وانضباطٍ مهنيٍّ، لا إلى استعجالٍ يفرِّغها من مضمونها، والرُّوح الإيجابيَّة الَّتي سادَتِ النّقاشات ـ كما عَبَّر عنها الموقف العُماني ـ تُشير إلى نجاح البيئة التفاوضيَّة في خلق مساحة ثقة متبادلة، وهو ما أتاح للأطراف تجاوُز عُقَد متراكمة وبناء تفاهمات قابلة للتَّنفيذ. كما يبرز التَّعاون مع المملكة العربيَّة السُّعوديَّة وجهود مكتب المبعوث الأُممي الخاصِّ في اليمن واللَّجْنة الدوليَّة للصَّليب الأحمر عناصرَ مُسانِدة لمسارٍ اتَّسم بالهدوء والاحتراف، وابتعدَ عن الضُّغوط الإعلاميَّة والتَّسييس المُفرط. فأهميَّة هذه الرُّوح التفاوضيَّة لا تكمن في الاتِّفاق ذاته، وإنَّما في قدرتها على إعادة الاعتبار لمنهج الحوار المتدرِّج، وترسيخ قناعة مفادُها بأنَّ الحلولَ الإنسانيَّة المستدامة تولدُ من مسارات هادئة تحترم الزَّمن، وتمنحُ الأطرافَ فرصةَ الوصولِ إلى قواسمَ مشتركةٍ دُونَ كلفةٍ إضافيَّة على معاناة المَدَنيين. لعلَّ التَّرحيب الإقليمي والدّولي الَّذي رافَقَ الاتِّفاق يعكس تحوُّلًا في مقاربة هذا الملفِّ المُعقَّد؛ فبعدَ سنواتٍ طويلة من إدارة الأزمة عِندَ حدودها الأمنيَّة والسِّياسيَّة الضيِّقة، يأتي هذا التَّرحيب مرتبطًا بإدراكٍ متزايد لدَى الفاعلين الإقليميين والدّوليين بأنَّ استمرارَ الصِّراع باتَ يحمل كلفةً جماعيَّة تتجاوز اليمن ذاته، سواء على مستوى الاستقرار الإقليمي أو أمْن الممرَّات الحيويَّة وسلاسل الإمداد. وقد جاء التَّعاون مع المملكة العربيَّة السُّعوديَّة ضِمن قراءة أكثر براجماتيَّة لضرورةِ خفضِ التوتُّر، فيما أسْهَم حضور مكتب المبعوث الأُممي الخاصِّ في اليمن واللَّجْنة الدّوليَّة للصَّليب الأحمر في توفير غطاء إنساني وتِقني يَضْمن تنفيذ الاتِّفاق بعيدًا عن التَّسييس المُفرط. وتبقَى أهميَّة هذا التَّوافق مرهونةً بالحفاظ على التَّوازن الدَّقيق بَيْنَ الدَّعم الدّولي واحترام خصوصيَّة المسار العُماني؛ فالتَّجربة اليمنيَّة كشفتْ أنَّ تحميل الاتِّفاقات الإنسانيَّة أبعادًا سياسيَّة تَفُوق طاقتها يُحوِّلها إلى أدوات ضغط مؤقَّتة، ويُفقدُها قدرتها على الصُّمود.. هنا يبرز الدَّوْر العُماني كعامل ضبط، يحمي البُعد الإنساني من الاستهلاك السِّياسي، ويمنحُ الاتِّفاقَ فرصةً حقيقيَّة للاستمرار والبناء عليه ضِمن مسار أكثر استقرارًا. إنَّ التَّحدِّي الحقيقي يبدأ عِندَ النُّقطة الَّتي يُغادر فيها الاتِّفاق حيِّز التَّرحيب إلى ميدان الاختبار العملي، حيثُ تتحوَّل المبادرات الإنسانيَّة من نصوصٍ موقَّعة إلى التزامات قابلة للصُّمود؛ فاتِّفاق تبادُل الأسرَى ـ على أهميَّته الإنسانيَّة ـ يُمثِّل خطوةً تأسيسيَّة داخل مسارٍ أطول وأكثر تعقيدًا، مسار يحتاج إلى حماية سياسيَّة وأخلاقيَّة تمنع توظيفه كورقةِ ضغطٍ لاحقة أو استهلاكه في إطار المواقف الإعلاميَّة العابرة. فالرِّهان في هذه المرحلة لا ينحصر في تنفيذ الاتِّفاق ذاته، وإنَّما في قدرته على فتح نوافذ لمعالجة بقيَّة الملفَّات المرتبطة بالوضع اليمني، ضِمن مقاربة تراكميَّة تُعِيد بناء الثِّقة خطوةً خطوة، وهنا تتجدَّد أهميَّة الدَّوْر العُماني كوسيطٍ وحارسٍ للمسار الإنساني من محاولات التَّسييس أو الارتداد. فالدبلوماسيَّة الهادئة الَّتي قادتْ إلى هذا الاتِّفاق تظلُّ مطالَبةً بالمساهمة في تثبيت منجزه عَبْرَ الإبقاء على الإنسان في صدارة الأولويَّات، وتحويل الاتِّفاق من لحظةِ تَوافُق مؤقَّتة إلى قاعدةٍ يُمكِن البناء عليها في اتِّجاه استقرار أكثر اتِّزانًا، يُدرك أنَّ السَّلام يُصاغُ عَبْرَ صبرٍ سياسيٍّ ونَفَسٍ طويل.