احتفل العالم وبالأحرى «العربي» منذُ أيَّام تحت مظلة أُمميَّة باليوم العالمي للُّغة العربيَّة لعام 2025.. وجاء احتفال سلطنة عُمان هذا العام بشعار «آفاق مبتكرة للُّغة العربيَّة: سياسات وممارسات ترسم مستقبلًا لُغويًّا أكثر شمولًا» وذلك اتساقًا مع برنامج اليونسكو الَّذي أعدَّته لإبراز «حقيقة الممارسات المستقبليَّة الَّتي تسعى إلى تعزيز المساواة بَيْنَ اللُّغات وتمكين المُجتمعات الناطقة بالعربيَّة وضمان الحفاظ على نبضها في تلك المُجتمعات مع قابليَّتها للتكيُّف كلُغة متجذِّرة في التراث الثقافي».
كُلّ عام يأتي هذا اليوم ليذكِّرنا بِدَوْرنا المنقوص والمفقود تجاه لُغتنا الجميلة ونشعر فيه لحظيًّا بتأنيب ضمير، ثم ما نلبث وتأخذنا دوَّامة الحياة مرَّة أخرى لِننغمسَ في التعرف على اللُّغات الأجنبيَّة الأخرى تحت دعوى الحداثة وسهولة التواصل مع المُجتمعات الخارجيَّة.
والسؤال هنا: هل السياسات والإجراءات الَّتي تَقُوم بها الدول العربيَّة كفيلة للحفاظ على لُغتنا الجميلة؟.. ولماذا لا تأخذ مكانتها اللائقة وسط اللُّغات الأجنبيَّة الَّتي تنتشر بَيْنَ الشَّباب؟ ولماذا لا يكُونُ للعربيَّة مكان في وسائل التكنولوجيا الحديثة؟
إنَّ قضيَّة اللُّغة العربيَّة ليست احتفاليَّة، بل حضاريَّة وثقافيَّة.. والجهود الَّتي تبذلها أغْلَب الدول العربيَّة طيِّبة، سواء من خلال المؤتمرات أو القرارات الرسميَّة أو مجامع اللُّغة وغيرها، ولكنَّها جميعًا رمزيَّة أو موسميَّة ولا تتحول إلى سياسات عمليَّة طويلة المدى تؤثِّر في حياة الناس اليوميَّة، خصوصًا الشَّباب.. ولو نظرنا لتعليم العربيَّة في كثير من المدارس نجد أنَّه يعتمد على الحفظ والقواعد الجافَّة لا على التواصل والإبداع ممَّا يدفع الطالب لحُبِّ اللُّغة الأجنبيَّة؛ لأنَّها حيَّة في الاستعمال ويشعر أنَّ العربيَّة مادَّة امتحان فقط.. كما أنَّ اللُّغات الأجنبيَّة تهيمن على التكنولوجيا الحديثة كالإنترنت والألعاب والتطبيقات والمحتوى العلمي والترفيهي الَّتي جميعها تقريبًا بلُغات أجنبيَّة، وهذا يجعل الشَّباب يربط التطور والحداثة بلُغة أخرى.
لقد نسينا أنَّ لُغتنا الجميلة ليست مجرَّد أداة للتخاطب، بل هي روح الأُمَّة وذاكرة الحضارة.. ويكفي أنَّ الله سبحانه وتعالى قد اختارها لآخر رسالاته فكانت لسان القرآن وكلمة الخلود الَّتي لا يطولها الفناء؟.. يقول تعالى: «إنا نحن نزلنا الذِّكر وإنَّا له لحافظون».. والحفظ هنا ليس للذِّكر وحده، بل للُّغة الَّتي نزل بها؛ فالعربيَّة محفوظة بحفظ الله وباقية ببقاء كِتابه.. ومهما اشتدت رياح التغريب وانتشرت اللُّغات الأجنبيَّة في فضاءات التواصل، فإنَّ العربيَّة لن تأفل شمسها؛ لأنَّها لُغة القرآن الَّذي يُتلى آناء الليل وأطراف النَّهار في مشارق الأرض ومغاربها فتتجدَّد العربيَّة مع كُلِّ آيَّة وتنبض مع كُلِّ حَرف.
ومع ذلك تقف لُغتنا اليوم في مفترق طرق.. فلُغات العالم تزاحمها في عقول أبنائها وميادين العِلم والتقنيَّة والإبداع تعمل على إقصائها ظنًّا وظلمًا أنَّها لُغة الماضي لا المستقبل.. والحقيقة أنَّ العربيَّة لم تضعفْ، وإنَّما تمَّ إضعافها ولم تتراجع، وإنَّما تركها أهلُها خَلْفً الرَّكب.. بدليل أنَّها كانت يومًا لُغة العِلم والفلسفة والطِّب والفَلَك وترجمت عنها الأُمم الكثير ونهلت من مَعينها.. ولكن حين تمسَّك غيرها بأسباب التطور غفلنا نحن عن تطوير لُغتنا فظلمناها بأيدينا، ليس لأنَّ العربيَّة عاجزة عن مواكبة العصر، بل لأنَّنا قصَّرنا في تحديث مناهجها وفي إدخالها بقوَّة إلى عالم التكنولوجيا والبحث العلمي والفضاء الرَّقمي.
لا شك أنَّ فرض مكانة العربيَّة على العالم لا يكُونُ بالشعارات، ولا بالمناسبات الاحتفاليَّة وحدها الَّتي لا تراوح قاعات الاحتفال، بل يكُونُ بالفعل الواعي والعمل الجادِّ حينما نجعلها لُغة عِلم ومعرفة، لا لُغة محفوظات فقط.. فحين نكتب بها في الفيزياء والطِّب والهندسة، وننتج بها محتوى رقميًّا جذابًا، ونغرس حُبَّها في نفوس الأطفال قَبل أن نثقلَهم بقواعدها.. سوف يشعر الشَّاب أنَّ العربيَّة لا تُقيِّده، بل تمنحه هُوِيَّة وقوَّة وامتدادًا حضاريًّا.
إنَّ لُغتنا الجميلة تواجه اليوم تحدِّيات مزدوجة، فلا يأتي خطرها من الخارج وحده، بل من الداخل قَبل ذلك.. فللأسف ينظر بعض أبنائها إليها بوصفها لُغة دراسيَّة ثقيلة أو لُغة تراث لا لُغة حياة.. فيهملونها في الحديث اليومي ويستبدلونها بلُغات أجنبيَّة، سواء في التعليم الَّذي انتشر من خلال تكاثر المدارس الدوليَّة ومدارس اللُّغات أو في العمل الَّذي لو نظرنا لفرصه باللُّغات المختلفة سنجد أنَّ الأوفر حظًّا والأكثر أجرًا للغات الأجنبيَّة كالإنجليزيَّة والألمانيَّة والفرنسيَّة والصينيَّة وغيرها وليس للعربيَّة مكان بَيْنَها.. كُلُّ هذا ينفر الناشئة، بدل أن يشجِّعهم على تعلُّمها، والنتيجة أنَّ لُغة الضَّاد غريبة في أوطانها، وتُعاني من ضعف الانتماء إليها.
أمَّا التكنولوجيا الحديثة فحدِّث ولا حرج.. فالفضاء الرَّقمي يُدار في معظمه بلُغات أجنبيَّة من التطبيقات والألعاب إلى البرمجيَّات والمراجع العلميَّة، بَيْنَما تحضر العربيَّة حضورًا خجولًا يشوبه الضعف في الجودة أو الندرة في المحتوى.. والتقصير هنا ليس من التقنيَّة ذاتها، بل من غياب الاستثمار الجادِّ في تعريبها وتطوير أدواتها ودعم المحتوى العربي الرَّقمي القادر على منافسة غيره.. ويزداد التحدِّي حين يتخذ الشَّباب من السرعة والاختصار ذريعة لتشويهِ اللُّغة فتنتشر العاميَّات والكتابة الهجينة والأخطاء الشَّائعة أثناء التواصل على فضاءات الشبكة العنكبوتيَّة حتَّى يكاد الجيل الجديد يعتاد صورة مشوّهة عن العربيَّة فيبتعد عنها ظنًّا أنَّها معقَّدة أو غير مناسبة للعصر.
لا شك أنَّ العربيَّة لا ترفض التكنولوجيا ولا تتنصل من الحداثة، بل تنتظر مَن يحملها إليها بثقة وإبداع.. فهي لُغة قادرة على التكيُّف وثريَّة بالمصطلحات ومَرِنة في الاشتقاق، وأخطر ما يُهدِّدها اليوم ليس لُغات العالم، بل تراجع الإيمان بها بَيْنَ أهلها وتركها وحيدة في معركة العصر الرَّقمي.. فإذا أصلحنا علاقتنا بلُغتنا وصالحناها مع التكنولوجيا استعادت مكانتها الطبيعيَّة.. كما لا بُدَّ من وجود إصلاح جذري لتعليم العربيَّة بأُسلوب حديث وتفاعلي، وتشجيع الشَّباب على استخدام العربيَّة بمرونة دُونَ سخريَّة من الأخطاء.
إنَّ اللُّغة العربيَّة لا تحتاج مَن يبكي عليها، بل مَن ينهض بها.. وستبقى رغم كُلِّ التحدِّيات لُغة الحياة والخلود؛ لأنَّ ما كان من عِندَ الله لا تَذْروه رياح الزَّمن.
ناصر بن سالم اليحمدي
كاتب عماني