يتفاخر الدبلوماسيون من مختلف المدارس الدبلوماسيَّة الأجنبيَّة حَوْلَ طبيعة بروتوكول وإتيكيت سِمات وفنّ التفاوض، وكيف يتبارون في وضع المراسم والخطوات الَّتي تُبدي أهميَّة التفاوض ومدى تقبُّله عِندَ الطرفين، سواء من كبار الشخصيَّات والوفود الرسميَّة أم في الأنشطة الرسميَّة أم غير الرسميَّة، وكذلك الاجتماعيَّة والشخصيَّة، والفرديَّة منها أم من وفد أم تجمع أشخاص بمناسبة خاصَّة، حيثُ درست المدارس الدبلوماسيَّة تأثير سِمات التفاوض ونتائجه من ناحية الربح أو الخسارة وتأثيره على نفسيَّة الأشخاص والمُجتمعات والدول وسلوكهم. وكانت نظريَّات عِلم النفْس والاجتماع تَقُوم بِدَوْر مُهمٍّ في وضع استراتيجيَّات هذا النَّوع من إتيكيت فنِّ التفاوض، وفي البداية أنَّ المفاوِض البارع هو الَّذي يعتمد على التشاور والمشورة مع زملائه قَبل التفاوض، ومن أهمِّ صفات التفاوض الناجح للوصول إلى أفضل النتائج والظفر بالأهداف. ويُعَدُّ التخطيط العلمي لحلِّ المُشْكلات وتحقيق الأهداف وجمع المعلومات ذات العلاقة، وتحليلها ووضع تصورٍ للحلول الممكنة وتقويمها، وتقديم المقترحات الَّتي من شأنها أن تُسهم في إيجاد جوٍّ من التعاون، بالإضافة إلى روح الفريق الواحد المتماسك والحِرفي والَّذين لدَيْهم باع طويل بفنِّ المفاوضات، ولا ننسى لُغة الجسد وتأثيرها على سَير المفاوضات.
تذهب المدارس الدبلوماسيَّة إلى أنَّ فنَّ وسِمات التفاوض يعتمد على ما يلي: (فنُّ الاستماع، فنُّ الإنصات، فنُّ المناقشة، الاتفاق على وجهات النظر أو الاختلاف فيها؛ وبالتَّالي يتمُّ الموافقة أو من عدمها).
مفردات المهارات الدبلوماسيَّة تُبنى وتبدأ بتبادل المصالح المشتركة والاتفاق عليها، وهو يستند إلى مفاهيم البروتوكول والإتيكيت الحكومي الَّتي سوف تغذِّي البلد وأهدافها، وتقدّم البلدان يأتي من خلال تنفيذ الإتيكيت الحكومي ومحاورها بالقيادة والقيادة الرشيقة بأعلى درجات الكفاءة.
والكثيرون منَّا قد يقعون في مواقف صعبة إذا لم يمتلكوا مهارات التفاوض وهي فِقرة التشاور، وإذا تحققتِ المشاورة على وجهها الصحيح قَبل التفاوض فإنَّ لها من الآثار الإيجابيَّة ما لا يخفى. ومن أهداف التفاوض التشاور قَبل المباحثات؛ لغرض القضاء على الفرديَّة والديكتاتوريَّة والارتجال، وتجنيب الأُمَّة آثار المواقف والقرارات الفرديَّة.
وقد تحدَّث القرآن الكريم عن هذا الموضوع، وتناوله بشيءٍ من التفصيل والعُمق منذُ نشوء الدَّعوة الإسلاميَّة المباركة؛ فبروتوكول وإتيكيت التفاوض في كثير من الآيات القرآنيَّة الكريمة يعطينا درسًا للاقتداء به وممارسته في حياتنا العمليَّة، وكان رسولنا الكريم (صلَّى الله عليه وسلَّم) يحثُّ على هذا النَّسق الرَّاقي في الحياة والدَّعوة إلى التعرف على بعض المفاهيم والحقائق عن سِمات التفاوض والَّتي تمَّ سردُها في آيات القرآن الكريم، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يَعْلم أنَّ خير وسيلة لتربية الأُمَّة وإعدادها للقيادة الرشيدة أن تُربَّى بالتفاوض وتبادل الآراء والمشورة للوصول إلى أفضل الحلول، والتدرُّب على خاصيَّة الإقناع والتفاوض، قال تعالى: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) (البقرة ـ 233)، هذه الآية الكريمة تعطينا درسًا في كيفيَّة التفاوض والوصول إلى أفضل النتائج بعد التشاور والتباحث بالأمر مهما كانت المُشْكلة، قال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ..) (الأنفال ـ 46)، وهذه إحدى نقاط ضعف وسلبيَّات فريق التفاوض، إذا حصل خلاف في الآراء وكيفيَّة طُرق التفاوض بَيْنَ المجموعة، وإن فشلوا بالوصول إلى هدف المفاوضات، فإنَّ النتائج سوف تكُونُ مدمِّرة وتؤدِّي إلى الشقاق وضياع الهدف المرجوِّ، وأنَّ هذا الشَّتات واختلاف الرأي في الفريق الواحد يعطي القوَّة للطرف الثاني المفاوِض المتماسِك. قال تعالى: (وشاوِرهم في الأمر فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله) (آل عمران ـ 159)، وهي آية كريمة واضحة على الوصول بأعلى النتائج في التفاوض بعد اعتماد مبدأ المشورة والمناقشة مع الفريق المفاوِض، والعزيمة تعني الثقة بالمعلومات وبالأهداف الواجب الوصول لها ثم النقطة الثالثة، وهي التوكُّل على الله؛ لأنَّ الإيمان أعلى درجات قوَّة المفاوِض.
وفي ختام الجزء الأول من مقالنا المتواضع هذا، فإنَّ التفاوض وفنَّ الإقناع يبدأ من العائلة (من الأب والأُم والأولاد) والزوج والزوجة، وأغْلَب مشاكل الطلاق الَّتي تقع كُلَّ يوم لَهُوَ دليل على عدم وجود فنِّ وسِمات التفاوض والإقناع بَيْنَ الاثنين؛ لِيصبحَ أصغر مُشْكلة هي أكبر مُشْكلة تهدِّد وتدمِّر كيان العائلة؛ لذلك علينا جميعًا الاقتداء بذكاء وأخلاق وفِطنة وكُلّ الصِّفات الراقية لرسولنا الكريم الَّتي هي مستمدَّة من القرآن الكريم بدلًا من الرَّكض خلف المدارس الأجنبيَّة في تطبيق مبادئ التفاوض، والَّتي هي أصلًا مستوحاة من القرآن الكريم وسِيرة النَّبي محمد والصحابة وآل بيته الكرام.
د. سعدون بن حسين الحمداني
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت