لم تَعُدِ السِّياحة في سلطنة عُمان ملفًّا خدميًّا يُدار بمنطق الأعداد الموسميَّة أو الحملات الترويجيَّة العابرة، وإنَّما تحوَّلت خلال السَّنوات الأخيرة إلى أحَد مُكوِّنات القرار الاقتصادي، وأداةٍ فعليَّة لإعادة تشكيل مصادر الدَّخل وتنويع القاعدة الإنتاجيَّة. هذا التَّحوُّل لم يأتِ من فراغ، وجاء نتيجة إدراك متراكم بأنَّ السِّياحة قادرة على أداء دَوْر يتجاوز استقبال الزائر إلى تحريك منظومة اقتصاديَّة كاملة تبدأ من النَّقل ولا تنتهي عِندَ الضيافة، مرورًا بالتشغيل، والخدمات، وبناء الخبرات، وتنشيط المحافظات، كما تبرز السِّياحة كقِطاع سيادي هادئ يعمل دُونَ ضجيج سياسي، ويُحقق عوائد مستقرَّة، ويُعزِّز صورة الدَّولة في الخارج؛ باعتبارها مساحة آمنة ومنظَّمة، قادرة على إدارة التجربة بجودة عالية؛ فالدول الَّتي تنجح سياحيًّا هي في الغالب دول نجحتْ أوَّلًا في ترسيخ الاستقرار، وبناء الثِّقة، وإدارة التَّفاصيل، وهي عناصر تتقاطع جميعها مع النّموذج العُماني في إدارة الشَّأن العام؛ لِيصبحَ الحديث عن السِّياحة حديثًا عن الاقتصاد، وعن السِّياسة العامَّة، وعن موقع الدَّولة في خريطة التَّنافس الإقليمي والدّولي، لا عن التَّرفيه أو التَّرف السِّياحي.
وتبرز سياحة الحوافز والمؤتمرات بوصفها أحَد أكثر منتجات السِّياحة قدرةً على ترجمة هذا التَّحوُّل من فكرة إلى عائد ملموس. فالأرقام المعلَنة عن تحقيق نَحْوِ (15) مليون ريال عُماني عائدًا اقتصاديًّا خلال عام واحد، واستقطاب أكثر من (100) مجموعة و(24) مؤتمرًا إقليميًّا ودوليًّا منذُ بداية عام 2025، لا يُمكِن قراءتها إلَّا كمؤشِّر على انتقال سلطنة عُمان إلى موقع تنافسي جديد في سُوق سياحة الأعمال. ويَقُوم هذا النَّوع من السِّياحة على استهداف شريحة مختلفة في السُّلوك والإنفاق والتَّأثير، حيثُ يأتي سائح الأعمال محمَّلًا بمتطلبات أعلى، وخيارات أدقَّ، وعائد اقتصادي يتجاوز الإقامة إلى النَّقل، والخدمات، والفعاليَّات، واللوجستيَّات المصاحبة؛ لذلك يُصبح كُلُّ مؤتمر أو برنامج حوافز منصَّة اقتصاديَّة مصغَّرة تتحرك حَوْلَها قِطاعات متعدِّدة في وقتٍ واحد، وهو ما يفسِّر توصيف هذا المنتَج السِّياحي بوصفه مضاعف الأثر مقارنةً بالأنماط السِّياحيَّة التقليديَّة، وهو رهان لا تَقُوم به إلَّا الدول الَّتي تمتلك بنية أساسيَّة مستقرَّة، وسمعة تنظيميَّة موثوقة، وقدرة على إدارة التَّفاصيل الدَّقيقة الَّتي يصعب قياسها بالأرقام وحدها.
إنَّ الأثر الحقيقي لسياحة الحوافز والمؤتمرات يتجاوز حدود الحدث ذاته لِيعملَ كمنظومة اقتصاديَّة متكاملة، يمتدُّ تأثيرها أُفقيًّا عَبْرَ قِطاعات متعدِّدة تتحرك في اللَّحظة نَفْسها، من الفندقة والنَّقل، إلى الخدمات اللوجستيَّة، والفعاليَّات، والضِّيافة، وصولًا إلى الكوادر الوطنيَّة العاملة في التَّنظيم والإدارة والتَّسويق، ما يمنح الاقتصاد المحلِّي قدرةً أعلى على امتصاص الإنفاق وتدويره داخليًّا، ويخلق قِيمةً مُضافة لا تظهر مباشرة في أرقام العوائد، وإنَّما في نقل الخبرات، ورفع الكفاءة، وبناء تراكم معرفي يرتبط بطبيعة كُلِّ مؤتمر وتخصُّصه، سواء في القِطاع الطبِّي أو الطَّاقة أو غيرها من القِطاعات الحيويَّة. ويُشكِّل تكامل الأدوار بَيْنَ وزارة التُّراث والسِّياحة والجهات الحكوميَّة المختلفة والقِطاع الخاصِّ بوصفه عامل حسمٍ، حيثُ تتحول الدَّولة من مشغِّل مباشر إلى منسِّق ذكي، يسهِّل الإجراءات، ويوحِّد المسارات، ويصنع بيئة جاذبة للمنظِّمِين الدوليِّين. هذا النَّمط من العمل المؤسَّسي يعكس نضجًا إداريًّا واضحًا، ويؤكِّد أنَّ المنافسة في هذا القِطاع تحسم في التَّفاصيل الدَّقيقة، وفي قدرة المنظومة على العمل بتناغم يختصر الوقت، ويخفِّض الكلفة، ويُعزِّز الثِّقة طويلة المدى.
لعلَّ قراءة مؤشِّرات الأداء الفندقي خلال عام 2025 تؤكِّد أنَّ ما تحقَّق في سياحة الحوافز والمؤتمرات انعكس مباشرةً على المشهد السِّياحي الأوسع، حيثُ سجَّلتِ الفنادق ارتفاعًا في عدد النُّزلاء، ونُموًّا ملحوظًا في الإيرادات، وتحسُّنًا في نِسَب الإشغال، وهي مؤشِّرات تحمل دلالة نوعيَّة تتجاوز الكمَّ إلى طبيعة الطَّلب وجودته وتنوُّع مصادره، ولم يبقَ النُّمو محصورًا في نطاق جغرافي ضيِّق، وفتح المجال أمام توظيف السِّياحة كأداة تنمية حقيقيَّة للمحافظات عَبْرَ استقطاب الفعاليَّات والمؤتمرات خارج المواسم التقليديَّة وخارج المراكز المكتظَّة، كما في ظفار والداخليَّة وغيرهما، وهو مسار يُعِيد توزيع العائد الاقتصادي، ويُعزِّز العدالة التنمويَّة، ويمنح المُجتمعات المحليَّة دَوْرًا مباشرًا داخل دَوْرة القِيمة السِّياحيَّة، كما تظهر سياحة الحوافز والمؤتمرات كمسار تطبيقي واضح لترجمة مستهدفات رؤية «عُمان 2040»، حيثُ يلتقي التَّنويع الاقتصادي مع تمكين المحافظات، وترتبط السِّياحة بالمعرفة والاستثمار والاستدامة.. هكذا تتقدم سلطنة عُمان في هذا القِطاع بخُطًى محسوبة، تُراهن على الجودة، وتَبني سمعتها بهدوء، وتؤكِّد أنَّ السِّياحة حين تُدار كسياسة عامَّة تتحول إلى ركيزة من ركائز القوَّة الاقتصاديَّة ومحدّد أساس لموقع الدَّولة في خريطة التَّنافس الإقليمي والدّولي.