يرصد واقعنا الاجتماعي في سلطنة عُمان ـ كغيره من المُجتمعات ـ تنامي عدد من الظواهر الفكريَّة والمُجتمعيَّة، وهي ظواهر أشار إليها حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ في عاطر خطبه السَّامية، في التأكيد على أهميَّة الاستشراف الوطني القائم على منهجيَّات أكثر كفاءة واستدامة وابتكاريَّة في التشخيص والتحليل والتقييم والرصد والمراجعة والتصحيح، وتوظيف الإحصائيَّات والبيَّانات في معالجات جادَّة ومستديمة تحدُّ من اتساع هذه الظواهر وتأثيرها على الاستقرار الاجتماعي، وعلى الإنتاجيَّة والاستثمار في الموارد الوطنيَّة.
ذلك أنَّ خطورة هذه الظواهر لا تكمن فقط في وجودها بوصفها حالات فرديَّة أو ممارسات طارئة، بل في تحوُّلها ـ مع مرور الوقت ـ إلى سُلوك جمعي وممارسة مُجتمعيَّة، في ظلِّ غياب الضوابط، وضعف معايير المتابعة والرقابة، وقصور أدوات التشخيص والتصحيح، ونقص برامج التَّوجيه والوقاية والمكافحة؛ ومع اتساع نطاقها، تتحول هذه الظواهر إلى قناعات فكريَّة ومُسلَّمات اجتماعيَّة تُغرس في ثقافة الفرد ووعيه الجمعي، الأمر الَّذي يجعل من معالجتها لاحقًا أكثر تعقيدًا وكلفة، مقارنةً بما لو تمَّ التعامل معها في مراحلها الأولى من خلال تدخلات فوريَّة استباقيَّة وتنظيميَّة وتوعويَّة فاعلة.
وتُشير مؤشِّرات انتشار الظواهر الفكريَّة والمُجتمعيَّة في المُجتمع إلى تنوُّع في الممارسات والسلوكيَّات، سواء ما يمسُّ منها منظومة القِيَم والهُوِيَّة والثوابت والمبادئ، أو تلك الَّتي ترتبط بطبيعة الاحتياج المُجتمعي ونتاج للظروف الشخصيَّة والعوامل الاقتصاديَّة أو المستجدات الحاصلة الناتجة عن التسريح مثلًا، ومن بَيْنِها: تعاطي المخدّرات، والتسوُّل، والتَّنمُّر، ومُشْكلات الطلاق، وغياب ثقافة الحوار الأُسري، والمُشْكلات الأُسريَّة والعلاقات الاجتماعيَّة غير المنضبطة، إضافة إلى الاتكاليَّة، وغياب الشعور بالمسؤوليَّة، والنزعة الاستهلاكيَّة، والفردانيَّة، وغلبة الأنا في التصرفات، وتمجيد المادَّة والاهتمام بالموضة وثقافة الصورة والشكليَّات، والصِّراع الأُسري، والأمراض النفسيَّة والقلق والإحباط وردود الفعل السلبيَّة، وانتشار الإشاعة وسرعة إصدار الأحكام، وضعف الثِّقة المُجتمعيَّة، والابتزاز والاستفزاز والاحتيال، وغياب الحياء والخجل، فضلًا عن قضايا الإيجارات والديون، والمُشْكلات الأُسريَّة المتعلِّقة بالميراث والعلاقات الزوجيَّة والنَّفقة وغيرها.
هذه الظواهر وغيرها لم تَعُدْ محصورةً في الإطار الفردي، بل تجاوزت ذلك لِتصبحَ سلوكًا اجتماعيًّا وممارسة مُجتمعيَّة غير مسؤولة، وهو ما تؤكِّده ارتفاع مؤشِّرات الجرائم من جهة، وارتفاع أعداد القضايا المرفوعة إلى الجهات القضائيَّة المختلفة، كالمحاكم والادعاء العام، أو تلك الَّتي تتعامل معها شُرطة عُمان السُّلطانيَّة والمؤسَّسات ذات الصِّفة الضبطيَّة، في المجالات المرتبطة بالجريمة والسُّلوك اليومي في المُجتمع.
من هنا، يأتي التساؤل، حَوْلَ أسباب انتشار هذه الظواهر، وحَوْلَ دَوْر البحث الاجتماعي كمسار أكاديمي أو مسار إجراءات وأنظمة عمل ـ بوصفه إحدى الأدوات الرئيسة في الرصد والدراسة والتشخيص والتحليل ـ في تقديم معالجات نوعيَّة واستثنائيَّة للحدِّ من هذه الظواهر، أو سدِّ مداخلها، أو تحليل مبرراتها من داخل المُشْكلة ذاتها. فالمدخل البحثي الاجتماعي يقوم في جوهره على فَهْمِ البيئة السلوكيَّة للفرد، وتحليل المتغيرات والظروف والمؤثرات الَّتي تحيط به، واستكشاف العلاقة بَيْنَ السلوك الناتج وطبيعة الواقع المعيشي والاجتماعي والنفسي الَّذي يمرُّ به الفرد في أثناء ممارسته لهذا السلوك.
كما يطرح هذا الواقع تساؤلات حَوْلَ مدى امتلاك مسارات البحث الاجتماعي الَّتي تنفِّذها المؤسَّسات المختلفة للأدوات المحكمة، والبرامج النوعيَّة، والاستراتيجيَّات الرَّصينة القادرة على تشخيص الظواهر بدقَّة، وتوظيف المتغيِّرات المستقلَّة في فَهْم العلاقة بَيْنَ الأسباب والنتائج، واستنطاق القناعات الَّتي تتشكل لدى الفرد أثناء ممارسته للسلوك، بما يُمكِّنه من الإفصاح عن واقعه بصورة صحيحة، في بيئة بحثيَّة تتوافر فيها معايير السريَّة والثِّقة والمهنيَّة.
وتكمن أهميَّة البحث الاجتماعي هنا في كونه أداة لإعادة بناء القِيَم، وصناعة التوازن النفسي والانفعالي، واستنطاق القِيَم والأخلاق والمبادئ في إصلاح النفْس وإدارة الذَّات، ورفع سقف الحصانة الفكريَّة والنفسيَّة والوازع الدِّيني لدى الفرد، بما يُمكِّنه من مواجهة المواقف الضاغطة دُونَ انحراف في التفكير، أو هروب من المواجهة، أو انسحاب من ميدان المسؤوليَّة، أو انكفاء على الذَّات بذرائع غير مقنعة.
ومن هذا المنطلق، تقع على عاتق المؤسَّسات الحكوميَّة والخاصَّة مسؤوليَّة تبنِّي سياسات أكثر احتواءً ومهنيَّة، ومسارات منهجيَّة واضحة لتعظيم البحث الاجتماعي المنتج بوصفه قِيمة مضافة في إعادة إنتاج السلوك الاجتماعي وتصحيحه، ويتطلب ذلك الاستثمار في الابتكار والتجديد، والاستفادة من دراسات الحالة، والمسوحات الاجتماعيَّة، والمؤشِّرات الإحصائيَّة، ونتائج عمل المؤسَّسات القضائيَّة والأمنيَّة والاجتماعيَّة، إضافةً إلى الرَّصد الناتج عن المنصَّات الرقميَّة ومنصَّات التواصل الاجتماعي، وما تعكسه من تباينات في الخطاب الاجتماعي، وبالتَّالي توظيف التقنيَّات الحديثة، وبناء نموذج تكاملي يربط بَيْنَ التشريعات والقوانين والبيانات والتحليل العلمي، وتعظيم الاستثمار في الأُسرة والأبناء؛ بوصفهم النواة الأساسيَّة لإعادة إنتاج السلوك الاجتماعي الإيجابي. كما يتطلب ذلك تبنِّي برامج محاكاة وتدخلات نوعيَّة تُسهم في نقل الفرد والأُسرة إلى مرحلة التحوُّل الذَّاتي، وإعادة النظر في الممارسات اليوميَّة، وتقوية أعمدة البناء الفكري والدِّيني والمهاري.
إنَّ الحديث عن البحث الاجتماعي يضعنا أمام جهود وزارة التنمية الاجتماعيَّة في كونها ـ في إطار اختصاصاتها ـ نموذجًا مهمًّا في حوكمة البحث الاجتماعي وتعزيز كفاءة الرَّصد الاجتماعي للحالات المستحِقَّة، والأُسر المعسِرة ومحدودة الدخل عَبْرَ تطوير آليَّات البحث الاجتماعي الميداني، ورفع كفاءة الكوادر المختصَّة، واعتماد معايير مهنيَّة دقيقة تسهم في الوصول إلى الفئات المستحِقَّة، وبناء قاعدة بيانات موثوقة تعكس الواقع الاجتماعي والمعيشي للأُسر، بما يدعم اتِّخاذ القرار المبني على الأدلَّة.
وبِدَوْرها تُسهم المنصَّات الرقميَّة الَّتي اعتمدتها الوزارة، مثل منصَّة «جود» وغيرها من الأنظمة الإلكترونيَّة، في رفع كفاءة عمليَّات الرَّصد الاجتماعي وحوكمة مساراته، من خلال توحيد قواعد البيانات، وتعزيز دقَّة الاستهداف، وتسريع إجراءات دراسة الحالات، والحدِّ من الازدواجيَّة في صرف المساعدات، وضمان الشفافيَّة والعدالة في توزيع الدَّعم. الأمر الَّذي يدعم تحسين جودة التدخلات الاجتماعيَّة، وتعزيز سرعة الاستجابة، وتحقيق التكامل بَيْنَ مختلف برامج الحماية الاجتماعيَّة، حيثُ تتنوع المساعدات الاجتماعيَّة الَّتي تقدِّمها الوزارة في هذا الإطار، لِتشملَ المساعدات الماليَّة المباشرة للأُسر المعسِرة ومحدودة الدخل، والمساعدات العينيَّة كالسِّلال الغذائيَّة والأجهزة الأساسيَّة، ودعم الإيجارات، والمساعدات العلاجيَّة، ودعم التعليم، بالإضافة إلى برامج التمكين الاقتصادي الَّتي تستهدف نقل الأُسر من دائرة الاحتياج إلى دائرة الإنتاج، عَبْرَ التدريب، ودعم المشاريع الصغيرة، وبناء القدرات.
إنَّ تحقيق تحوُّل نوعي في جاهزيَّة البحث الاجتماعي وكفاءته وقدرته على الوصول إلى المستحقين، يستدعي وعيًا مُجتمعيًّا يَقُوم على أهميَّة تكاتف جهود المواطنين من خلال التعاون مع فِرق البحث، والباحثين والإفصاح عن احتياجاتهم بشكلٍ أكثر شفافيَّة وموضوعيَّة، والمساهمة في إيجاد بيئة مُجتمعيَّة موائمة للرَّصد والدراسة والتحليل، في ظلِّ امتلاك الأُسر لروح التعاون والإيثار والمسؤوليَّة بالشكل الَّذي يوجِّه أثَر هذا الدَّعم إلى مستحِقِّيه، بحيثُ تكُونُ المساعدات والتدخلات موجَّهة إلى مَن هم في أمسِّ الحاجة إليها، بعيدًا عن الذاتيَّة أو المصالح الفرديَّة؛ فإنَّ الالتزام بهذه الموجِّهات سوف يَضْمن الشفافيَّة والوضوح في إجراءات تقديم الدَّعم، وبناء الثِّقة المُجتمعيَّة، ما يُسهم في رفع فعاليَّة برامج البحث الاجتماعي وتوجيه الموارد بشكلٍ عادل وكفء. كما يُسهم ذلك في ترسيخ قِيَم التكافل الاجتماعي والمسؤوليَّة المُجتمعيَّة، ومُجتمع أكثر تماسكًا واستدامة، قادرًا على مواجهة التحدِّيات الاجتماعيَّة والفكريَّة بشكلٍ منظَّم وواعٍ.
أخيرًا، تبقى حوكمة البحث الاجتماعي مرهونة بكفاءة وتكامليَّة الأُطر والتشريعات، وشموليَّة التعامل مع البحث الاجتماعي من حيثُ مفاهيمه ومساراته وآليَّاته وأساليبه، وشروط القائمين عليه، وتخصُّصاتهم ومؤهلاتهم، والبرامج التدريبيَّة والتأهيليَّة الَّتي يَجِبُ أن يخضعوا لها لضمان كفاءة التعامل مع مختلف الحالات، سواء كانت حالات اجتماعيَّة عاديَّة، أو حالات تعيش ظروفًا صعبة اجتماعيَّة واقتصاديَّة ونفسيَّة، أو تلك الناتجة عن الأزمات والكوارث والجوائح، كما تبرز أهميَّة تعظيم دَوْر مراكز الرَّصد والبحوث الاجتماعيَّة والنفسيَّة والإنسانيَّة، بالاستفادة ممَّا تقدِّمه من تشخيص وتحليل للظواهر، وربطها بخصوصيَّة المكان أو بالقواسم المشتركة (الولاية والمحافظة)، وصولًا إلى إنتاج حلول من رحم المُشْكلة ذاتها، بما يُحقق الاستقرار المُجتمعي واستدامة الموارد.
د.رجب بن علي العويسي