عادةً ما تُقابل شخصًا ما، ويتساءل بسؤال قد أضحى كثيرًا يتكرر بَيْنَ عددٍ من الأفراد بَيْنَ الفينة والأخرى، ولكن طبعًا بصيغ مختلفة، ألا وهو: لماذا أشعر بتوعُّك رغم أنَّ جميع فحوصاتي طبيعيَّة؟ بلا شك قد يكُونُ هذا سؤالًا وجيهًا ومُهمًّا. صحيح أنَّ الطبَّ الحديث وصل لمستويات متقدِّمة في الكشف عن الأمراض، ولكنَّه في بعض الحالات يعجز عن تفسير العلامات المبكرة الَّتي تظهر قَبل التَّشخيص بفترة طويلة. ومع ذلك نادرًا ما يكُونُ الجسم صامتًا. بل كما نلاحظ جميعًا في حياتنا هنالك أمراض وأعراضها أو علاماتها تتحدث بهدوء قَبل أن تجبر على الصّراخ!
نعي أنَّ صحَّة أيِّ شخص لا تنهار فجأة، بل أغلبها تتدهور تدريجيًّا. وهنا أتحدث عن اختلالات صغيرة تتكرر علينا ونتجاهلها. فعلى سبيل المثال، قلَّة النَّوم، وأسابيع من الخمول، حتَّى ذلك التوتُّر الَّذي يُصبح عبئًا مستمرًّا مع الوقت. طبعًا هذا التوتُّر ليس مجرَّد ضغط عاطفي، بل رُبَّما جهد بَدَني، أو مصاحبة قلَّة النَّوم، وعدم انتظام تناول الطَّعام مثلًا. وللأسف هنا ـ وكما نعي جميعًا ـ يُصبح التوتُّر مزمنًا، فتبدأ الأنظمة بجسمنا المصمّمة للبقاء على المدى القصير بالتأثير سلبًا على الصحَّة على المدى الطويل.
وهذا يأخذنا لموضوع النَّوم، والمحور الأهم في حياتنا، خصوصًا وأنَّه عِندَما يقصر أو يتقطع، تُصبح عمليَّات الجسم غير فعَّالة. فهل نعي حقًّا معنى النَّوم وقِيمته؟ وكيف أنَّه عِندَما يتأثر يتدهور تنظيم مستوى السكَّر في الدَّم لدَيْنا، وتتغير هرمونات الشهيَّة، وتزداد حساسيَّة الجسم للألم، ناهيك عن حالة الاكتئاب وارتفاع معدَّلاتها بَيْنَ الأفراد الَّذين يعانون من اضطرابات النَّوم المزمنة، وقلَّة النشاط، حتَّى في غياب أحداث الحياة الأهم؟
طبعًا هنالك عنصران آخران لا ينقصان أهميَّة، ألا وهما الحركة والتَّغذية. وكلاهما ـ كما نَعْلَم ـ له تأثيره الإيجابي على صحَّتنا، ولكن مع طبيعة الإنسان وظروفه المحيطة قد ينسى ـ مثلًا ـ أنَّه عِندَما تقلُّ الحركة، يتباطأ تدفُّق الدَّم، وتضعف العضلات، وتنخفض حساسيَّة الإنسولين، وتتصلب المفاصل. ومن المُهمِّ هنا أن نذكر أنَّ الدراسات تظهر أنَّ فوائد الحركة لا تقتصر على الرياضيين فقط. فالحركة اليوميَّة البسيطة، كالمشي أو تمارين المقاوَمة الخفيفة، أو النشاط البدني المنتظم تُحدث تحسينات ملموسة في صحَّتنا في غضون أسابيع. كُلُّ هذا يأخذنا إلى دراسة رصينة بَيَّنَت أنَّ النتائج الصحيَّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسلوكيَّات المستدامة أكثر من ارتباطها بالتقلُّبات الحادَّة قصيرة الأجل. ما أعنيه هنا ـ وبالنظر لتلك الدراسة ـ أنَّ ليلةً واحدة من قلَّة النَّوم لا تُحدث تأثيرًا يُذكر، بَيْنَما يُحدث الحرمان من النَّوم لأشْهُر تأثيرًا أكبر. بل وأسبوع من التوتُّر يُمكِن تحمُّله، لكنَّ عامًا مليئًا بالتوتُّر يترك آثارًا بيولوجيَّة سيِّئة. وهذا بوضوح يفسِّر سبب شعور الناس بأنَّهم ليسوا على طبيعتهم قَبل تشخيص أيِّ مرض بفترةٍ طويلة!
بطبيعة الحال، رسالتي المطمئنة هنا هي أنَّ الله وهَبَنا القدرة على التكيُّف تحت أيِّ ضغط، كما سمَحَ لنا بالتعافي عِندَ تحسُّن الظروف، خصوصًا وأنَّ دراسات طبيَّة أظهرت أنَّ تحسين جودة النَّوم، وزيادة النشاط البدني، واستقرار التغذية تؤدي إلى تحسينات ملموسة في مؤشِّرات الإنسان الصحيَّة، ومستويات الالتهاب، والشعور بالراحة، لكن طبعًا في غضون أشْهُر.
ختامًا، يَجِبُ أن نفهمَ بأنَّ الجسم لا ينهار فجأة دُونَ سابق إنذار، بل يظهر أعراضه تدريجيًّا في البداية، وذلك من خلال التَّعب واضطراب النَّوم وضعف المناعة. ولعلَّنا عِندَما نتعلم الاستجابة المبكرة قَبل أن يستدعي منَّا المرض عناية طبيَّة، يُعَدُّ من أهم أشكال الرعاية الصحيَّة الَّتي يَجِبُ علينا استيعابها!
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي