حالة شديدة من الجدل في مصر، أثارها عرض فيلم سينمائي يروي سِيرة كوكب الشرق أُم كلثوم، حمل عنوان «الست»، انقسم المصريون بَيْنَ مؤيِّد ومعارِض لما جاء بأحداثه، الَّتي تناولت الحياة الشخصيَّة لأُم كلثوم، وأظهرت كيف تطوَّرت شخصيَّتها، من فتاة ريفيَّة بسيطة ترتدي ملابس الرجال وتضع العقال فوق رأسها، تطوف بصحبة والدها، الَّذي اكتشف موهبتها منذُ الصغر، للغناء في الموالد والمناسبات الدينيَّة، حتَّى سمعها أحد متعهدي الحفلات، فنصحها بالسَّفر إلى القاهرة، لِتحصلَ على الفرصة الَّتي تناسب موهبتها، وهناك يحدُث صدام بَيْنَ أُم كلثوم وأبيها الشيخ الريفي محدود الطموح، وابنته الشَّابَّة الَّتي تتمتع بذكاء خارق وطموح ليس له حدود، الأب يقحم نفسه ـ كما يظهر في الفيلم ـ في العزف مع الفرقة الموسيقيَّة الَّتي تصاحب أُم كلثوم، فتنهره ابنته عِندَما تجده يعزف نشازًا، وعِندَما يبزغ نجم المطربة الشَّابَّة وتروّج «أسطواناتها» بَيْنَ الجمهور، يكثر الحاسدون والحاقدون ويدفعون لصحفي مرتشٍ؛ لِينشرَ إشاعات تنال من سمعة وأخلاق أُم كلثوم، وعِندَما تنتشر الإشاعة يثور الشيخ خالد الريفي المحافظ، وبدلًا من أن يساندَ ابنته ويدافع عنها؛ في مواجهة هذه الحرب الشعواء، يطلب منها العودة للقرية وترك المجد والمال الموجود في القاهرة، وعِندَها تواجهه أُم كلثوم، بشرطها للعودة، وهو الجلوس في المنزل وعدم الغناء في الموالد مرَّة أخرى.
يظهر الفيلم الوالد شخصيَّة ضعيفة، طماعًا محدود الذَّكاء، فعِندَما يتدخل الشاعر أحمد رامي ويحذِّره من أنَّ العودة للقرية ستؤكِّد الإشاعات ولن تنفيَها، بَيْنَما البقاء في العاصمة سيذيب الإشاعة ويئدها، وتحت ضغط الحاجة للمال، يوافق الأب على العودة عن قراره بسهولة، وفي أحد المشاهد يطلب أجرًا لابنته (25) جنيهًا، فتنهره أُم كلثوم وتستطيع انتزاع (350) جنيهًا عن نفْس الحفل، وفي الأخير يترك ابنته والقاهرة ويعود لقريته، بعدما أصبح عبئًا على أُم كلثوم، مقابل مبلغ من المال اشترى به عددًا من الأفدنة.
أظهر الفيلم أُم كلثوم شخصيَّة ماديَّة بخيلة مسيطرة، ففي أحد المشاهد تُحصي بنفسها عدد المقاعد المرصوصة في المسرح، وتضرب في ثمن التذكرة، حتَّى تستطيع تحديد الأجر العادل لها، في مواجهة المتعهد الَّذي يحاول بخس حقِّها، كما تناول الفيلم أزمة أُم كلثوم مع انتخابات نقابة الموسيقيين، الَّذين كانوا يرفضون أن ترأسهم امرأة، فهدَّدتهم بعدم الاستعانة بهم في حفلاتها، فيرضخون خوفًا من فقد مصدر رزقهم، كما أظهر الفيلم أُم كلثوم تدخن السجائر بشراهة.
هذه المشاهد الصَّادمة، اعتبرها بعض مشاهدي الفيلم تشويهًا لتاريخ أسطورة الغناء العربي، وأنَّها ضِمن حملة متعمَّدة للنَّيل من أحد الرموز الوطنيَّة، الَّتي أثرت وجدان المواطن العربي بأعمال فنيَّة راقية، غنَّت خلالها أجمل القصائد وأعذب الألحان على مدار عقود طويلة من العطاء، بَيْنَما يرى الفريق الآخر أنَّ الفيلم لم يسئ لأُم كلثوم، ولكنَّه تناول السِّيرة الذاتيَّة بواقعيَّة، بعيدًا عن التمجيد والتنزيه، الَّذي وقعت في أحباله الأعمال السابقة الَّتي تناولت سِيرة حياة أُم كلثوم، وأظهرتها بارَّة بأبيها، وسخيَّة مع أهلها، والمحيطين بها. وبعيدًا عن «فتنة» الإعجاب والرفض لما جاء بالفيلم، فالشيء الَّذي لفَتَنِي، وأثلج صدري، أنَّ أُم كلثوم ما زالت متربعة على عرش الغناء العربي حتَّى الآن رغم مرور (51) عامًا على رحيلها، وأنَّ الأجيال الحديثة الَّتي لم تولد إلَّا بعد وفاتها، ما زالت مهتمَّة بكُلِّ ما يتعلق بحياتها، وأنَّ شخصيَّتها ما زالت مؤثِّرة في محيطها المصري والعربي، وما زالت أغانيها تجد إقبالًا من كافَّة الأعمار في سائر الدول العربيَّة.
محمد عبد الصادق
كاتب صحفي مصري