.. وهكذا شهد العراق ظهور شخصيَّات بريطانيَّة كرَّست حياتها وسني شبابها لدراسة حقل من حقول الحياة العراقيَّة، فبرزت الآنسة بيل (Mia Centrude Bell) وصداقتها الحميمة مع الملك فيصل الأول، مؤسِّس المملكة العراقيَّة)، بَيْنَما تفوَّقت فريا ستارك (Freya Stark) كأفضل كاتبة وفنَّانة في الشؤون السِّياسيَّة والحياة الاجتماعيَّة العراقيَّة، بعد أن أصدرت العديد من المصنَّفات النَّفيسة حَوْلَ هذا البلد منها كتب لرسوماتها الَّتي تُعَدُّ من أفضل الأعمال الفنيَّة الَّتي توثِّق حياة العراق والعراقيين عَبْرَ بدايات القرن العشرين أمَّا في حقل الدراسات الدينيَّة ودراسات الأديان القديمة، فقد أبدعت باحثة اسمها الليدي دراور (Lady Drower) في تعمُّقها ورصدها لأديان الأقليَّات القديمة مؤلِّفةً عددًا من الكتب المرجعيَّة حَوْلَ الصابئة المندائيين وحَوْلَ اليزيديَّة»، وهو دِين رافديني ينتشر فقط في شمال العراق.
وقد كان الضبَّاط الإداريون والعسكريون البريطانيون الَّذين عملوا في العراق إبان الاحتلال وعهد الانتداب من أبرز الَّذين درسوا الحياة الاجتماعيَّة والتنظيمات العشائريَّة للأقاليم الَّتي كانوا يديرونها، إلَّا أنَّ كتاباتهم المهمَّة ولكنَّها لم تنشرِ الأسباب عسكريَّة وأمنيَّة، حيثُ ذهبت عَبْرَ هذه القنوات الخاصَّة إلى الدوائر الحكوميَّة المسؤولة في لندن ثم إلى المتحف البريطاني. ومن هؤلاء، الحاكم العسكري لإقليم العمارة (ميسان) هيدكوك (Hedgcock) الَّذي ألَّف، معًا مع زوجته، أفضل دراسة أنثروبولوجيَّة حَوْلَ «المعدان» من سكان الأهوار جنوب العراق، بعنوان حجي ريكان: عربي من الهور (Haji Rikkan : ( (Marsh Arab) مفضلًا إصدار هذا الكِتاب المرجعي المهمِّ باِسْمِ قلمي مستعار، هو فلانان (Fulanain) بمعنى فلان وفلان، أي هو وزوجته نظرًا إلى منع السُّلطات البريطانيَّة نشر مثل هذه الكتب من قَبل مسؤولين رسميين أثناء الخدمة في الدَّولة.
رُبَّما يكُونُ هذا الاهتمام البريطاني بالأهوار وبسكَّانها قد بَلْوَر فكرة الاستعراق لديَّ شخصيًّا، حيثُ ظهر عددٌ كبير من المرتحلين الَّذين كرَّسوا حياتهم وأنشطتهم لاستكشاف عالم الأهوار. لقد شملت قائمة المستعرقين من المختصِّين بالأهوار جنوب العراق أسماء لامعة في تاريخ الوجود البريطاني في الشرق الأوسط، أسماء من وزن والفرد ثسجر (Thesiger)، مؤلِّف ِتاب رمال بلاد العرب، وكذلك جون فيلبي (Philby) الَّذي بقي سنين ساكنًا البصرة على حافات الأهوار وهو يشرب من مياه شط العرب دُونَ تعقيمها، بَيْنَما يتناول تمور البصرة دُونَ غسلها، كما كان يشتكي زملاؤه البريطانيون من عدم اهتمامه بشروط الصحَّة وقد كان آخر العمالقة المتخصِّصين بإقليم الأهوار، هو جيفن بانج (Gavin Young) الَّذي أتحف مكتبة الاستعراق والاستعراب بكتابَيْنِ مصوَّرَيْنِ مهمِّيْنِ، هما: عرب الأهوار (Marah Arabs) وعودة إلى الأهوار (The Return Marshes)، وهي مؤلَّفات أنثروبولوجيَّة واجتماعيَّة وطبيعيَّة وصفيَّة حاولت بذكاء رصد كُلِّ ما يتعلق بعالم الأهوار المختبئ خلف أعمدة البردي والقصب الشاهقة، وقد تُوفِّي هذا المستعرق الكبير قَبل حوالي خمس سنوات في بريطانيا بعد أن اقتنص نوعًا نادرًا من أنواع ثعالب الماء (Otter) العراقيَّة المعروفة في أهوار العراق، فقط لِيكُونَ هذا الثعلب بطلًا تذكاريًّا في فيلم سينمائي كان معروفًا، صوِّر في إنجلترا.
أمَّا الاستعراق اليوم فإنَّه يعيش عصره الذَّهبي بفضل كتائب العلماء والمتخصِّصين والباحثين الأميركان الَّذين حوَّلوا الاستغراق من حقل بريطاني إلى حقل أميركي أشْبَه ما يكُونُ بحِرفة ولنا أن نستذكرَ هنا ما قاله الكاتب البريطاني، رئيس وزراء بريطانيا على عهد الملكة فيكتوريا، بنجامين دزرائيلي (Disraeli) بأنَّ الشرق هو حِرفة حقل معرفي يُمكِن التخصُّص به، بل واحترافه من قِبل الأميركيين اليوم. هؤلاء هم رجال ونساء من الجامعيين والمتخصِّصين والضبَّاط الَّذين يخترقهم ولع وتعطُّش قوي لمعرفة كُلِّ شيء، كُلِّ شيء عن العراق بدقَّة: حيثُ البحث في الإنسان والمُجتمع، الحياة الطبيعيَّة والثروات المعدنيَّة، ناهيك عن الحياة السِّياسيَّة والتنظيم الدِّيني والإثني لعموم العراق وإلى نهاية قائمة «الرافدينيَّات» أو الموضوعات العراقيَّة الَّتي يحتاجها الباحث، مدعومًا بالأموال والمصالح الحكوميَّة.
ثمَّة انتشار واسع هذه الأيَّام للعديد من المراكز العلميَّة والمعاهد الأميركيَّة المتخصِّصة في الشؤون العراقيَّة داخل العراق وفي دول الجوار، بل وفي أميركا الَّتي يستشعر المرء حضورها في العشرات من المسابقات العلميَّة والدَّعوات للتأليف والبحث، هذه الظاهرة تذكر المرء بحملة نابليون على مصر، حيثُ أخذ الجنرال الفرنسي معه مختلف العلماء المتخصِّصين من باريس إلى القاهرة لتدوين ملاحظاتهم عن مصر مُجتمعها، تاريخها، حاضرها.
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي