الاثنين 22 ديسمبر 2025 م - 1 رجب 1447 هـ
أخبار عاجلة

الترجمة في العراق وآفاق المعرفة في العصر الحديث (2 -6)

الترجمة في العراق وآفاق المعرفة في العصر الحديث (2 -6)
الاثنين - 22 ديسمبر 2025 01:31 م
20

تنشر «الوطن» في ست حلقات، كتابا جديدا للكاتب العراقي ⁧‫وليد الزبيدي‬⁩ بعنوان “⁧‫الترجمة في العراق‬⁩ وآفاق المعرفة في العصر الحديث”.


يختلفُ العراقُ معرفيًّا عن كثيرٍ من الدول العربيّة، فالمعرفةُ، ومعها الترجمةُ، لم تقتصرْ على اللغة العربيّة فقط، وبقدر ما نجدُ التنوّعَ في اللغات والترجمات، فإنّ ميادينَ المعرفة تزخرُ بالكثير من هذا وذاك. وعند الحديث عن الترجمة في العصر الحديث في العراق، لا بدّ من الذهاب إلى بداياتها في العصر العبّاسي، والتوقّف سريعًا عند أهمّ محطّات الترجمة، ولا سيّما أنّ مدينةَ بغداد كانت المحطّة الأبرز على هذا الصعيد، كما أنّه من الصعب جدًّا التوقّف عند سقفٍ زمنيٍّ محدّد في مجالي المعرفة والترجمة.

وفي صفحات الكتاب وقفةٌ عند كلّ لغةٍ في بلاد الرافدين: الترجمةُ من العربيّة وإليها، والكرديّة، والتركمانيّة، والمندائيّة، والترجمةُ في اللغة السريانيّة.

ويواجهُ المتصدّي لمثلِ هذا الموضوع العديدَ من الصعوبات، فالإحاطةُ الوافيةُ ليست سهلة، لكنّ ما يقدّمه الكتاب في صفحاته إنّما هو إضاءاتٌ لا بدّ منها على منجزِ المترجمين والحقولِ التي عملوا فيها.

قنوات الترجمة ومدى الاهتمام بها

إن حركة الترجمة تسير ضمن قنوات متعددة لتصب في نهاية المطاف في رافد واحد، فتضيف للمعرفة الكثير وتعطي دفقا ثقافيا للمجتمع، وهذا يتحقق من خلال تلك القنوات، فمنها من يترجم الأدب العالمي ويعرّف بثقافات وإبداعات الكبار في تلك الدول والشعوب، وثمة من يترجم الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية واللغوية وغيرها، ويغرف من كل ذلك القراء والمتخصصون والباحثون في مراكز الدراسات والأبحاث وطلبة الدراسات العليا في الجامعات. ويمكن تلمس الحضور الواسع للترجمة من خلال المصادر المعتمدة في الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه وفي الدراسات والابحاث المنشورة في الكتب وما تنشره الدوريات المتخصصة بمختلف حقول المعرفة.

وقد ازدادت المعرفة وتنوعت اتجاهاتها بفعل (الترجمة) التي تُعد وسيلة ثقافة وحضارة وتواصل، مؤكدة على ما أنجزته الشعوب في سبيل تقدم الإنسانية، وهي وسيلة فعالة تمثل صلة مباشرة بين الحضارات في جميع المجالات، وأداة تعبير عن قوة المجتمع في استيعاب هذه المعارف، وهي سبيل لا غنى عنه في سبيل نشر الثقافة، وكانت من أهم وسائل الانتقال الفكري والمعرفي بين مختلف شعوب العالم على مر العصور( ). كما لعبت ترجمة الأدب دورًا هامًا جدًا في تطور تاريخ وحضارة البشر. ومما لا شك فيه، أنه بدون الترجمة، لعاش العالم في الظلام بسبب الانغلاق التام.

وبقدر ما نتحدث باهتمام بالغ عن دور الترجمة في التواصل بين العراق والأمم والشعوب الاخرى، فإن ثمة حقيقة لا يمكن إغفالها تتمثل في ضعف الاهتمام بالترجمة وعدم ايلائها الأهمية التي تستحق لتؤدي الدور الحضاري المطلوب، ونتحدث هنا عن قرون في عصرنا الحديث. وتشير الدراسات إلى أن ما تٌرجم في العراق من خلال المؤسسات الرسمية ودور النشر الاخرى لا يتناسب وحاجة الساحة الثقافية والمعرفية في هذا البلد.

ويمكن اعتماد الاحصائيات التي صدرت عن مؤسسات معروفة في هذا الميدان، ونقارن ذلك بحركة الترجمة في العراق ببعض الدول العربية، ((فقد قامت المنظمة العربية للتربية والثقافة بإحصاء ما تُرجم من المؤلفات الأجنبية في المدة الممتدة بين عامي 1970 و1980م فتبين لها أن مجموع عدد الكتب المترجمة بلغ (2840) كتابًا، منها 62٪ تُرجمت في مصر، و17٪ في سورية، و9٪ في العراق، و5.4٪ في لبنان. كما تبين من هذا الإحصاء أن نسبة كتب العلوم الأساسية والتطبيقية المترجمة لا تزيد على 14٪، بينما بلغت نسبة ما ترجم من كتب الآداب والقصة والفلسفة والعلوم الاجتماعية ما يزيد على 70٪، ومما لا شك أن انخفاض نسبة الكتب العلمية المترجمة يعود إلى أن جميع الأقطار العربية، باستثناء سوريا، لم تقم بتعريب التعليم الجامعي"( ).

نحن نعرف أن حركة الترجمة كانت نشيطة وقوية خلال حِقب كثيرة من التاريخ العربي الإسلامي، وخصوصًا أيام الخلفاء العباسيين حين بلغت ذروتها مع تأسيس (بيت الحكمة). وأن هذه الحركة أفضت إلى التقدم الهائل والمعروف الذي شهدته المعارف العربية الإسلامية في مختلف ميادينها، من الفلسفة إلى الطب والحساب، مرورًا بالموسيقى والفلك؛ إلا أننا عندما نتكلم عن التراث الفلسفي والفكري عند العرب لا نذكر الكتب الأجنبية التي نُقلت إلى العربية في ذلك العصر بقدر ما نذكر المؤلفات الضخمة التي وضعها الفلاسفة الكبار، مثل ابن سينا والفارابي والكندي وابن رشد، وغيرهم كثير( ).

وطيلة تلك القرون حافظت بغداد على دورها البارز في ميدان الترجمة نظرًا للحركة الفكرية والثقافية الواسعة التي تواصلت في مختلف حقول المعرفة؛ لكن أحوال الترجمة بدأت بالتراجع منذ منتصف القرن الثالث عشر الميلادي بعد غزو المغول لبغداد وحرق مكتباتها.

إن الحاجة إلى الترجمة موجودة منذ زمن بعيد، وقد ساهمت ترجمة الأعمال الأدبية الهامة من لغة إلى أخرى بشكل كبير في تطور الثقافة العالمية. وتحركت أفكار وأشكال ثقافية باستمرار واستوعبت في ثقافات أخرى من خلال أعمال المترجمين. ويرتبط تاريخ الترجمة بالتفاعلات الثقافية غير المرئية في العالم. وأثرت الأفكار والمفاهيم القادمة من الشرق، ولا سيما الهند والصين والعراق، على الثقافة الغربية منذ أوائل القرن السادس قبل الميلاد، عندما تم تأسيس العلاقات التجارية لأول مرة بين الهند ودول البحر المتوسط( ).

وكان للعديد من النظريات الطبية عند أفلاطون وجالينوس تأثر كبير بنظريات الهند. وتم التعريف بالعديد من الأعمال الفلسفية والعلمية لليونان القديم إلى اللغة العربية في وقت مبكر من القرن التاسع الميلادي، ثم انتشرت هذه المعرفة إلى أوروبا عبر أسبانيا التي كانت في الغالب دولة إسلامية( ). وكانت مدرسة المترجمين في توليدو في إسبانيا التي أسسها ألفونسو السادس من (قشتالة) و(ليون) في عام 1085م، مسؤولة عن الترجمات من العربية إلى اللاتينية ومن ثم إلى هذه الأعمال العلمية والتكنولوجية الإسبانية التي أدت لاحقًا إلى النهضة الأوروبية. وعلى الرغم من مساهماتهم الرئيسية، إلا أن المترجمين القدامى ظلوا في الغالب غير معروفين( ).

لم يقتصر دور الترجمة التي انطلقت من بغداد في العصر العباسي على التعرف على العلوم والفلسفات والمعارف في الثقافات الأخرى، أو في التعريف بالفكر والثقافة والفلسفة العربية، بل تجاوز ذلك إلى حقل معرفي آخر تمثل في الحفاظ على مصادر مهمة في ثقافات وحضارات الشعوب، ففي القرن التاسع الميلادي، قام العرب بترجمة معظم مؤلفات أرسطو، وهناك مؤلفات كثيرة ترجمت عن اليونانية إلى العربية، وضاع أصلها اليوناني فيما بعد، فأعيدت إلى اللغة اليونانية عن طريق اللغة العربية، أي أنها لو لم تترجم إلى اللغة العربية لضاعت نهائيًا( ).

وحدث أن أعيدت ترجمة كتاب (كليلة ودمنة) إلى اللغة الفارسية عن النص العربي، لضياع الترجمة الفارسية وهو الأمر نفسه الذي حدث لبعض النصوص الإغريقية، وتمت الترجمة كما هو معروف عن لغة وسيطة، لأن الكتاب بالأصل كتب باللغة الهندية القديمة، وليس باللغة الفارسية( ). وفي الوقت ذاته بدأت الترجمة في العصر العباسي من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية، ولقد أشار المستشرقون إلى دور العرب في الحضارة الأوروبية، في هذه الفترة. كما أشار بعض الأدباء الغربيين إلى فضل علوم العرب على الغرب ونذكر من هؤلاء الأديب الألماني غوته (1749-1832)( ).

ولم تتوقف حركة الترجمة رغم مرورها بمراحل من التراجع والانكماش، وحافظت بنسب متفاوتة على التفاعل مع الثقافات العالمية الأخرى.

وليد الزبيدي

 كاتب عراقي

[email protected]