تُمثِّل مرحلة التقاعد من العمل أهميَّة كبرى للإنسان لا تقلُّ عن مرحلة العمل؛ فهي مرحلة حياتيَّة لا بُدَّ منها كأيِّ مرحلة يمرُّ بها كُلُّ واحد منَّا، وتبقى عمليَّة التعاطي معها مختلفة من شخص لآخر ومن دولة لأخرى، ورُبَّما تكمن المُشْكلة في اعتقادي الشخصي في بعض الإشكاليَّات الَّتي يعاني منها البعض في هذه المرحلة إلى عدم وجود تاريخ تقاعدي لدى المُجتمع. بمعنى أنَّ هذا الجيل قد يكُونُ الجيل الأول الَّذي يمرُّ بهذه المرحلة. فالأجداد لم يعرفوا هذا النمط إلَّا ما ندر، وبالتَّالي كأعداد وظاهرة هي في الواقع جديدة على مُجتمعنا المحلِّي، وبالتَّالي العمليَّة هنا تحتاج لمزيدٍ من الاطلاع على تجارب دول شبيهة بنظامنا الاجتماعي والاقتصادي للاستفادة منها بطريقة لا تفقد هذ المرحلة أهميَّتها.
والموضوع هنا يأخذ ثلاثة اتجاهات متوازية أوَّلهما مرتبط بالمتقاعد ذاته، والثاني مرتبط بالدولة، والأخير مرتبط بالمُجتمع، وجميعها مكملة لبعضها البعض. فالمتقاعد يَجِبُ أن يعيَ ماذا يريد من التقاعد، ويَجِبُ أن ينظر له بأنَّه مرحلة من ضمن مراحل حياته ـ كما أسلفنا ـ لا أن يرى أنَّ التقاعد هو النهاية، وأنَّ عليه انتظار الموت فقط، بل يَجِبُ أن يكُونَ التقاعد بداية حياة يرى من خلالها نفسه بصورة مختلفة عن الصورة النمطيَّة الَّتي عاشها في سنوات عمله، حيثُ كان الوقت ضيقًا والضغوطات لا تتوقف والمسؤوليَّات تتوالى، ولكن كُلّ ذلك يبدأ في هذه المرحلة يتقلص، وبالتَّالي يُمكِن للإنسان هنا أن يبدأ في الإحساس بنوع من الراحة بأن قد تخلَّص من كُلِّ ذلك، بدلًا من الإصرار على الاستمرار في نفس الدائرة المتعبة والمنغلقة، وهذا يتطلب وعيًا وفكرًا نابعًا من قدرته على فهم الحياة وإدراك أنَّ لكُلِّ مرحلة منها خصائص تختلف عن غيرها، ويَجِبُ علينا أن نعيش كُلَّ مرحلة بكُلِّ مزاياها مبتعدين عن عيوبها.
وإذا كان الدَّوْر كبيرًا على الشخص المتقاعد في فهم هذه المرحلة، فإنَّ الدَّوْر الَّذي لا يقلُّ أهميَّة هو دَوْر المُجتمع الَّذي يعيش فيه؛ فتكامل الوعي والفكر لدى المتقاعد يَجِبُ أن يقابله تقبُّل مُجتمعي وإظهار أهميَّة وجوده حتَّى بعد انتهاء فتره عمله، كلّ في المجال الَّذي يرغب من خلاله في خدمة مُجتمعه، ولا يشترط هنا نقل خبرات العمل إلى المُجتمع فحسب، بل يتعداه لجوانب ومهارات يعمل من خلالها المتقاعد في خدمة مُجتمعه مرتبطة بشغفه الخاص. فإذا كان دَوْره المُجتمعي في القرية الَّتي يسكن فيها محدودًا في السابق بسبب ضيق الوقت المرتبط بعمله، فإنَّ الفرصة الآن مواتية أكثر من أيِّ وقت مضى لهذه الأدوار، والمجال المُجتمعي غير محدود بجانب واحد فحسب، بل يتعدى ذلك إلى مجالات وجوانب مختلفة لا يتسع المجال لحصرها في هذا المقال، ودَوْر أفراد المُجتمع إدماج المتقاعد في هذه المجالات وعدم النظر له بأنَّه شخص منتهي الصلاحيَّة، بل بالعكس يَجِبُ الاستفادة منه وتشجيعه على خدمة مُجتمعه.
كما أنَّ للفرد دَوْرًا في هذه المرحلة وللمُجتمع كذلك، فإنَّ الدَّوْر الأهم يبقى على عاتق الحكومة الَّتي يَجِبُ أن تستفيد من خبرات هؤلاء المتقاعدين؛ فهؤلاء يمتلكون من الخبرة الكثير ليقدِّموه، وليس أقلّها وجود إشكاليَّات أحيانًا لدى بعض المؤسَّسات يُمكِن الاستفادة منهم كخبراء واستشاريين لمعرفة طُرق معالجة هذه الإشكاليَّات. فالخبرة لا يُمكِن تعويضها؛ لأنَّها في النهاية تراكميَّة وواقعيَّة بعيدًا عن التنظير الزائف، والأمر ليس بالغريب والجديد، فهنالك دول مثل كندا تهتم بهذا الجانب وتستفيد من خبرات هؤلاء المتقاعدين، وفي نفس الوقت تعزِّز وجودهم وتثبت لهم من خلال هذا التوجُّه أنَّهم أشخاص فاعلون حتَّى ولو تركوا أعمالهم نتيجة وصولهم للسِّن التقاعديَّة، ولكن العطاء لا يرتبط بعمر معيَّن.
إنَّ تكامل هذا الثالوث في وجود وعي للمتقاعد، وتقبُّل المُجتمع له والاستفادة من خبراته من قبل الحكومة لهو كفيل في النهاية أن يصنعَ من المتقاعد شخصًا إيجابيًّا ومنتجًا لا ينظر لنفسه بأنَّه عبء على نفسه ومُجتمعه؛ وبالتَّالي يسهم بفعاليَّة في خدمة مُجتمعه، وفي قدرته على تقبُّل العيش في هذه المرحلة المهمَّة من حياته.
د. خصيب بن عبدالله القريني