الاثنين 22 ديسمبر 2025 م - 2 رجب 1447 هـ
أخبار عاجلة

من الاستشراق إلى «الاستعراق» عبر الاستعراب: قصة ولادة اصطلاح «3»

من الاستشراق إلى «الاستعراق» عبر الاستعراب: قصة ولادة اصطلاح «3»
الأحد - 21 ديسمبر 2025 08:22 ص

أ.د. محمد الدعمي

10


كان هؤلاء المرتحلون الأوائل من الهواة المدفوعين بحُب المعرفة لذاتها وبدافعيَّة الاستكشاف وبالعواطف الدينيَّة، بَيْدَ أنَّ حدثًا مُهمًّا في تاريخ أوروبا كان قد حقَّق دفعًا إضافيًّا للاهتمام بحوض الرافدين إلى درجة تحوَّل هذا الاهتمام إلى نوع من الحمَّى (Fever) حيثُ أخذ الرحَّالة والمنقِّبون والسفراء والباحثون عن الكنوز من التفوق والتميز الثقافي، وهم يتدافعون ويتسابقون للذهاب إلى العراق بحثًا عن مبتغياتهم، كلًّا حسب أهوائه.

وهناك ثمَّة حدث تاريخي مُهمٌّ أعطى دفعًا إضافيًّا لحمَّى الولع الغربي ببلاد الرافدين: هذا الحدث المفصلي في تاريخ البشريَّة الحديث هو «الثورة الصناعيَّة» الَّتي هزَّت العقل البريطاني، بخاصَّة، ودفعته نَحْوَ البحث عن كُلِّ ما يتعلق بالشرق على سبيل بناء الإمبراطوريَّة والتوسُّع الكولونيالي. لذا ظهر في العراق واحد من أهم المنقبين وعلماء الإنسان حقبة ذاك، وهو «ليارد» (Layard) الَّذي ألَّف واحدًا من أهم كتُب عصر الثورة الصناعيَّة بعنوان (بقايا نینوی ) (The Remains of Nineveh)، وهو الكتاب الَّذي جاء لإشباع تعطُّش فكري غربي لمعرفة مهد الحضارات، درجة أنَّ الشاعر الإنجليزي الرومانسي وليام وودزوورث (Wordsworth) ( أبو الرومانسيَّة الإنجليزيَّة) قال «إنَّ هذا الكتاب يأتي ثانيًا، فقط بعد الإنجيل»، واضعًا الكتابَيْنِ المهمَّيْن على رفٍّ قريب من رأسه وهو راقد في الفراش. بَيْدَ أنَّ الملاحظ هنا هو أنَّ هذا الاهتمام بالعراق لم يتحدَّدْ ببناء الإمبراطوريَّة البريطانيَّة؛ ذلك أنَّه امتدَّ بقوَّة لِيشملَ الفرنسيين والألمان والهولنديين والطليان والنمساويين وسواهم من الأوروبيين. بل إنَّ أهمَّ روَّاد حقل الدراسات الرافدينيَّة كان من الألمان، أو البروس، كما كانوا يسمّون قَبل الوحدة الألمانيَّة.

يستحقُّ الاهتمام الثقافي العربي بأرض الرافدين المعاينة الدقيقة في هذا السياق، على سبيل تحديد الأبعاد الفكريَّة الأوسع، وبخاصَّة بقدر تعلَّق الأمر بفكرة حديقة الرافدين، إذ إنَّ اللفظ «عدن» (Eden) هو لفظ سومري يعني الوادي المسطح الواسع (Plain). لقد أشار الكِتاب المقدَّس، سفر التكوين(Genesis) إلى بلاد الرافدين كموقع للفردوس الأرضي، زيادة على ما عرضته الخرائط القديمة الَّتي تعود إلى القرن السابع عشر على أقلّ التقديرات، ولا ينبغي أن تفوتنا الإشارة إلى الشاعر الإيطالي دانتي (Dante) الَّذي تحدَّث عن أرض الرافدين في قصيدته المشهورة «الفردوس» (Paradiso)

أمَّا الشعراء والكتَّاب البريطانيون الآخرون فقد اهتمُّوا بهذا الموضوع حتَّى عَبْرَ تفحُّص أقْدَم المدوَّنات الأدبيَّة والقصائد في تاريخ الأدب الإنجليزي الوسيط، مثل قصائد تشوسر (Chaucer) الَّذي صوَّر الحديقة الفردوسيَّة المستقاة من أسطورة النساء الطيِّبات (Legend of Good Women) البابليَّة، متمنيًا الارتقاء إلى بلوغ المرأة المثاليَّة المخلصة في الحُب، تلك المرأة المستقاة من أسطورة ثسب (Thisthe) البابليَّة، علمًا أنَّ تشوسر قد استوحى قصَّة هذه الأسطورة عن أوفيد (Ovid)، وهذه أسطورة تستحق الملاحظة والمزيد من الرصد والبحث العلمي؛ ذلك أنَّها تُشبه قصَّة روميو وجولييت (في الثقافة الغربيَّة) كما أنَّها تُشبه قصَّة «قيس وليلى» (في الثقافة العربيَّة). تَدُوْر قصَّة الحُب البابليَّة بَيْنَ فتاة اسمها ثسب وفتى اسمه بايراموس (Pyramus)، يفرق بَيْنَهما جدار حقيقي وجدار اجتماعي بسبب صراع بَيْنَ عائلتَي العاشقين، لذا تسبق هذه القصَّة قصص الحُب. القديمة من هذا النوع بقرون.

وقد أشار الشاعر الإنجليزي سبنسر (Spenser) إلى الحديقة الرافدينيَّة في قصيدته الشهيرة «The Fairy Queen»، ناهيك عن الإشارات المتعددة الَّتي طبقت على كتابات الشاعر المسرحي وليام شيكسبير (Shakespeare)، وبخاصَّة في مسرحيَّة يوليوس قيصر (Julius Caesar). أمَّا الشاعر جون ميلتون (Milton)، فإنَّه قد ضمَّن قصيدته الملحميَّة الفردوس المفقود (Paradise Last) تلميحات إلى بلاد الرافدين وإلى تموقع جَنَّة عدن هناك. ولا ينبغي أن تفوتنا الإشارة إلى مؤلف اللورد بايرون المعنون ساردانا الثاني بالوس (Sardanapalus II) (11) الَّذي سبق ذكره والَّذي وقع في دائرة السحر الرافدينيَّة نفسها. أمَّا في العصر الفيكتوري، فقد خصَّ أمير شعراء العصر اللورد الفريد تينيسون (Tennyson) بلاد الرافدين والمرأة العربيَّة المسلمة بالعديد من إشارات الإعجاب والانسحار، خصوصًا في قصيدتَي «Layla of the King» والأميرة «The Princess»، زد على هذا كُلِّه الاهتمام الغربي الكبير بأسطورة تموز(Temoz)، وهو الرجل الَّذي يرمز إلى الخصب، والَّذي وقعت عشتار (Ishtar) في حُبه.

لذا كان الاهتمام الغربي بأرض الرافدين قد تَواصَل دُونَ انقطاع عَبْرَ هذه الحقب المُهمَّة من تاريخ الثقافة الغربيَّة، حتَّى وقوع العراق تحت نفوذ الإمبراطوريَّة البريطانيَّة، إذ تكرَّس هذا الاهتمام الفكري بالرافدين والمتخصص بها، ليس فقط بسبب موقعها على الطريق الرئيسة بَيْنَ الجزر البريطانيَّة وبَيْنَ أهم مستعمراتها، (الهند)، بل كذلك بسبب غنى البلاد وإرثها التاريخي المُهمّ، زيادة على مسبّبات اقتصاديَّة مستجدَّة، كاكتشاف النفط المبكر شمال العراق. وقد أذن الاحتلال البريطاني للعراق، ثم وقوعه في دائرة الانتداب البريطاني، باندفاع أعداد هائلة من البريطانيين وسواهم من الأوروبيين لدراسة العراق، من إنسانه وتاريخه، إلى حياته ونباتاته الطبيعيَّة، لذا فإنَّ أفضل الدراسات حَوْلَ النباتات والحيوانات، وأفضل الخرائط الموجودة للعراق (حتَّى اليوم) هي من إنتاج الروَّاد البريطانيين الَّذين جاءوا بعد بداية القرن العشرين بعدما خسر العثمانيون الحرب العالميَّة الأولى أمام الحلفاء.

أ.د. محمد الدعمي

كاتب وباحث أكاديمي عراقي