الترحال مع الخط العربي وتاريخه، بقدر ما هو ممتع وساحر، فإنَّ محطَّاته متعدِّدة وأعلامه كثيرون. واعتمادًا على ما ذكره الخطَّاط التركي الكبير حامد الآمدي، فإنَّ الخط العربي قد وُلد في بغداد على يد الخطَّاط ابن البواب (ت 413هـ)، وعاد إلى بغداد على يد الخطَّاط هاشم محمد البغدادي (ت 1339هـ).
بهذه المعلومة تمكَّن الباحث الدكتور أدهام محمد حنش من الإمساك بي بقوَّة للطواف بَيْنَ صفحات هذا الفنِّ الجميل. والدكتور حنش متخصص في الخط والتراث العربي، وله العديد من المؤلَّفات والبحوث والنشاطات والمشاركات. ويُعزِّز حنش ما قاله الخطَّاط التركي بقوله: «إنَّ هذه المقولة توحي بأنَّ فنَّ الخط العربي كان ـ ولا يزال ـ عراقيًّا بامتياز».
تبدأ أنواع الخطوط العربيَّة من حقبة ما قَبل الإسلام، وكان يُعرف حينها بخط الجزم، وهو ناشئ فنيًّا عن تحوُّلات كُلٍّ من الخط الحيري والخط الأنباري والخط الحضري. ويفكك الدكتور حنش المَسيرة التاريخيَّة للخط العربي اعتمادًا على ثلاثة خطوط كانت سائدة، وتُعَدُّ جذور نشأة الخط العربي، وهي الخط الحضري، والأنباري، والحيري في جنوب العراق.
ويكمل الدكتور حنش تسليط الضوء على رحلة الخط العربي في حقبة ما بعد الإسلام، إذ وصل العراق مع نسخ القرآن الأولى، وظهر في مدينة البصرة في أقصى جنوب العراق الخط البصري، وفي مدينة الكوفة الخط الكوفي. وفيما يتعلق بهذا النَّوع من الخط، أي الكوفي، الَّذي شاع في أرجاء العالمين العربي والإسلامي، يقول بعض المؤرخين إنَّ الكوفيين استعانوا بكتَّاب من أهل الحيرة، فاشتغلوا على أنواع الخطوط وصورها السابقة تهذيبًا وتجويدًا وتطويرًا، مؤسَّسين لما اشتهر لاحقًا باسم الخط الكوفي.
وبعد تأسيس مدينة بغداد الَّتي أصبحت مركزًا للخلافة الإسلاميَّة، وفي خضم نهضة فكريَّة وثقافيَّة واسعة، ظهر الخط البغدادي بصورة مختلفة تمامًا عن الخط الكوفي، دون إلغاء الأول أو الحد من استخدامه في الكثير من الدواوين. وازدهر هذا الفنُّ على أيدي العلماء والخطَّاطين المشهورين، وفي هذه الميادين يتحفنا الدكتور حنش بتفاصيل ممتعة عن روَّاد الخط البغدادي وما شهده من تطوُّر كبير وانتشار واسع.
المعلومة الَّتي لم تكُنْ لي دراية بها تتعلق بِدَوْر المحامي والمؤرخ عباس العزاوي، صاحب موسوعة «تاريخ العشائر العراقيَّة» الشهيرة بأجزائها الأربعة، والَّتي صدرت مطلع خمسينيَّات القرن العشرين وما زالت تُعَدُّ المرجع الأول لتاريخ العشائر العراقيَّة. يضاف إلى ذلك تدوينات البريطانيَّة مس بيل ورسائلها عن لقاءاتها مع أبرز رؤساء القبائل وشيوخها في العراق.
أمَّا المعلومة الجديدة فهي أنَّ العزاوي كان من أبرز الشخصيَّات الَّتي اهتمَّت بالمخطوطات والاحتفاظ بها، إذ تضم مقتنياته ـ بحسب الدكتور حنش ـ ما يزيد على ثلاثة آلاف مخطوطة على مستوى العراق والشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بخطَّاطي العصر الحديث، نتوقف عند أسماء كبيرة مثل ناجي زين الدين، وعباس العزاوي، وهلال ناجي، ويوسف ذنون، ومحمود شكر الجبوري، وغيرهم.
وما تطرقنا إليه هنا ليس أكثر من مفاتيح مختصرة لفتح بوَّابات ونوافذ كثيرة في واحة معرفيَّة واسعة.
وليد الزبيدي
كاتب عراقي