الأحد 21 ديسمبر 2025 م - 30 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : حين يتحول الصمت الدولي إلى شريك فـي الكارثة

الأحد - 21 ديسمبر 2025 05:01 م

رأي الوطن

10


تدخل غزَّة اليوم مرحلة مكشوفة من الكارثة الإنسانيَّة، مرحلة لم تَعُدْ تحتمل لُغة التوصيف أو بيانات القلق، وهو ما يُضفي على تصريحات الأمين العامِّ للأُمم المُتَّحدة دلالة سياسيَّة تتجاوز بُعدها الإنساني المباشر؛ فحين يقول رأس المنظَّمة الدوليَّة إنَّ (1.6) مليون إنسان يواجهون مستويات قصوى من انعدام الأمن الغذائي، فنحن أمام اعتراف صريح بانهيار شامل للحياة تحت الحصار، واعتراف أعمق بعجز المنظومة الدوليَّة عن أداء دَوْرها المفترض. هنا لا يقف المُجتمع الدولي على مسافة واحدة من المأساة، فهو يظهر كطرف يعرف حجم الجريمة ويكتفي بتسجيلها في دفاتر التقارير، وتتكدس الأرقام، وتتكرر التحذيرات، فيما يظلُّ الفعل الحقيقي غائبًا وكأنَّ المطلوب إدارة الكارثة لا وقفها؛ لِتتحولَ البيانات الأُمميَّة من أدوات ضغط إلى شهادات تاريخيَّة على زمن شاهَدَ فيه العالم الجوع والحصار والموت الجماعي، وفضَّل الاكتفاء بالمراقبة، وغزَّة، بهذه الصورة، تكشف التناقض الفادح بَيْنَ الخِطاب الأخلاقي الدولي وبَيْنَ الواقع السياسي الَّذي يحكم قراراته، حيثُ تُترك حياة المَدَنيين رهينة حسابات القوَّة لا مبادئ العدالة.

لم تكُنِ العاصفة الَّتي ضربت غزَّة حدثًا عابرًا في نشرة الطقس، كانت اختبارًا قاسيًا لحقيقة الواقع الإنساني الَّذي فُرض على مئات الآلاف تحت الحصار. فالمنخفض الجوِّي كشف ما حاول العالم تجاهله طويلًا، من خيام مهترئة، أرض موحلة، أطفال يواجهون البرد بلا غطاء، ونازحين تُركوا في العراء تحت سماء لا ترحم.. هنا تتعرَّى الكارثة في صورتها الأكثر قسوة، حيثُ يتداخل الطبيعي مع السياسي، ويتحول المطر والبرد إلى امتداد غير مباشر لسياسات التجويع والتدمير؛ فوفاة الرضَّع بسبب البرد ليست قدرًا، هي نتيجة سلسلة قرارات واضحة قادت إلى تجريد الإنسان من أبسط وسائل الحماية. وحين تُغرق الأمطار المُخيَّمات، فهي تكشف انهيار منظومة ادَّعت حماية المَدَنيين، فالمُجتمع الدولي الَّذي شاهَدَ البيوت تُسوَّى بالأرض، وترك النَّاس يلوذون بخيام مؤقَّتة، يتحمل مسؤوليَّة كاملة عن هذا المشهد؛ لأنَّه سمح بأنْ يُصبحَ الإيواء الطَّارئ نمط حياة دائمًا. لم يَعُدِ الموت في غزَّة حكرًا على القصف، صار للبرد نصيب، وللمطر دَوْر، وللصَّمت الدّولي توقيعه الواضح على كُلِّ خيمة غارقة وكُلِّ جسدٍ صغير لم يحتمل ليلة شتاء.

إنَّ استهداف مدرسة تؤوي نازحين شرق مدينة غزَّة يكشف انهيارًا كاملًا لمفهوم الحماية الدوليَّة، ويضع المُجتمع الدّولي أمام مسؤوليَّته الأخلاقيَّة والقانونيَّة دُونَ مواربة. فالمدرسة، بما تحمله من رمزيَّة إنسانيَّة، تحوَّلت إلى ساحة قتل، والأطفال الَّذين احتموا بجدرانها سقطوا ضحايا، في مشهدٍ يعكس سقوط كُلِّ الخطوط الَّتي قِيل يومًا إنَّها حمراء، هذا الهجوم لا يُمكِن فصله عن سياق أوسع تُدار فيه الهدنة كترتيب شكلي لا كالتزام يحمي الأرواح، وتفرَّغ فيه الاتِّفاقات من مضمونها الإنساني. إنَّ عجزَ فِرق الإنقاذ عن انتشال الجثث إلَّا بعد التنسيق مع مكتب الأُمم المُتَّحدة لتنسيقِ الشؤون الإنسانيَّة يختصر المأساة في صورة واحدة، وهي حماية مؤجَّلة، وإغاثة مشروطة، وكرامة تُدار بالتصاريح! وفي هذا المناخ تُصبح حماية المَدَنيين شعارًا بلا أدوات، وتتحول القرارات الدوليَّة إلى أوراق صامتة أمام واقع يفرضه ميزان القوَّة. فغزَّة هنا لا تواجِه اعتداءً معزولًا، تواجِه منظومة دوليَّة قبلتْ أنْ ترى الملاجئ أهدافًا، وأنْ تختبرَ القِيَم أمام أعْيُنها، فتختار الصَّمت طريقًا أسهل من الفعل.

إنَّ الاكتفاء بالدَّعوات الإنسانيَّة، وتكثيف نداءات الإغاثة لم يَعُدْ كافيًا أمام مشهد يتكرر بوجوه مختلفة، فالإغاثة في ظلِّ الحصار تتحول إلى إدارة للألم لا إلى حلٍّ جذري للأزمة، وتحذيرات (الأونروا) عن نقص الإيواء والمساعدات تُعِيدُ طرح السؤال المؤجَّل حَوْلَ موقع المُجتمع الدولي من جوهر المأساة. فالأزمة في غزَّة لا تنبع من نقص الخيام أو البطانيَّات، تنبع من قرار سياسي يفرض التجويع ويُبقي المَدَنيين مكشوفين أمام القصف والبرد معًا، واستمرار الحصار يعني أنَّ كُلَّ شحنة مساعدات تظلُّ مؤقتة، وكُلَّ استجابة إنسانيَّة تبقى رهينة مزاج سياسي متقلب. وهنا تتضح المفارقة القاسية، فالعالم يمدُّ يدًا لإسعاف الضحيَّة ويُبقي قدَمه ضاغطة على أسباب النَّزف، فكسر الحصار يظلُّ المدخل الوحيد لتحويل الخِطاب الإنساني إلى فعلٍ يحمي الحياة، وكُلُّ ما دُونَه يرسِّخ واقعًا تُصبح فيه الكارثة حالةً دائمة لا طارئًا عابرًا. إنَّ غزَّة اليوم لا تطلب شفقة، وإنَّما تطلب قرارًا يُعِيد تعريف المسؤوليَّة الدوليَّة بعيدًا عن إدارة الصوَر والأزمات نَحْوَ مواجهة السَّبب الحقيقي الَّذي يصنع هذا الموت البطيء ويُعِيد إنتاجه كُلَّ يوم.