أصبحت رؤية الدولة الماليَّة جزءًا محوريًّا في إدارة الناحية الاقتصاديَّة، لذا فإنَّ تبنِّي رؤى ماليَّة جديدة يُمثِّل تغييرًا جذريًّا في طريقة التفكير واتخاذ القرار وتوزيع القوَّة داخل الاقتصاد. وما تشهده سلطنة عُمان في ملفها المالي خلال الفترة الماضية والحاليَّة يعكس هذا المعنى بوضوح، فقد حافظ الأداء المالي المتَّزن على الاقتصاد الوطني في لحظات الأزمات العالميَّة والإقليميَّة الأخيرة، حيثُ وفَّرت الإدارة الماليَّة الرشيدة المتمثلة في خطَّة الإنقاذ المالي مظلَّة أمان مكَّنت الدولة من العبور بأقلّ كلفة ممكنة، واليوم يتقدم هذا المسار خطوة إضافيَّة عَبْرَ حزمة متزامنة من التحرُّكات المؤسَّسيَّة الَّتي ظهرت ملامحها في اللقاء المصرفي السنوي الَّذي عقده البنك المركزي العُماني مع المؤسَّسات الماليَّة، بالتوازي مع إطلاق المرحلة الأولى من النظام المالي الحكومي الموحَّد (ماليَّة)، وهي تطوُّرات تعطي للقِطاع المصرفي دَوْرًا أكبر.. هذه التطورات تكشف عن انتقال هادئ من إدارة ماليَّة تتابع الصرف وتغلق الحسابات، إلى إدارة تمسك بالخيوط من البداية، وتبني منظومة ترى المال بوصفه أداة تنظيم وسيطرة وتنمية في آنٍ واحد. ومن هذا المنطلَق يكتسب اللقاء المصرفي السَّنوي الَّذي نظَّمه البنك المركزي العُماني دلالة أعمق من كونه اجتماعًا دَوْريًّا مع المؤسَّسات الماليَّة، إذ يعكس انتقال الدَّوْر الرقابي من حدود المتابعة إلى فضاء القيادة والتَّوجيه؛ فالتركيز على تحديث أنظمة المدفوعات، وتسريع التسويات، وتوسيع أدوات الرقابة الرقميَّة، يعكس إدراكًا بأنَّ كفاءة النظام المالي تخطَّت الالتزام بسلامة الحسابات الختاميَّة فقط، وبدأت تُقاس بقدرته على الحركة السَّلِسة، وضبط السيولة، وتقليل المخاطر قَبل تحوُّلها إلى أزمات، وهي مقاربة تمنح القِطاع المصرفي موقعًا أكثر تأثيرًا داخل معادلة التنمية، حيثُ يتحول من وسيط تمويلي إلى شريك في إدارة الإيقاع الاقتصادي عَبْرَ توجيه الائتمان، وتحسين كفاءة التدفقات الماليَّة، وتعزيز الثقة في السوق، ليظهر البنك المركزي كعقلٍ منظِّم للمشهد المالي، يوازن بَيْنَ الاستقرار والمرونة، ويُعِيد رسم العلاقة بَيْنَ البنوك والاقتصاد الحقيقي، بما يَضْمن أنْ تبقى السيولة في خدمة النُّمو، وأنْ تتحركَ الأدوات الماليَّة وفْقَ أولويَّات وطنيَّة واضحة لا وفْقَ اعتبارات قصيرة المدى.
إنَّ إطلاق المرحلة الأولى من النظام المالي الحكومي الموَحَّد (ماليَّة) يُمثِّل ترجمة عمليَّة لهذا التحوُّل من مستوى الرؤية إلى مستوى الإدارة اليوميَّة للمال العام، حيثُ تنتقل الماليَّة العامَّة من منطق التجميع والمتابعة اللاحقة إلى منطق الربط اللحظي، واتِّخاذ القرار المبني على بيانات حقيقيَّة. فهذه الأداة التقنيَّة الجديدة تعمل على إعادة ضبط طريقة عمل مؤسَّسات الدَّولة مع الإنفاق، والتخطيط، والرقابة عَبْرَ منصَّة واحدة تُوحِّد اللُّغة الماليَّة بَيْنَ الوحدات الحكوميَّة، وتقلّص الفجوة بَيْنَ المعلومة والقرار، كما تكمن أهميَّة (ماليَّة) من كونها تضع الخزانة العامَّة في موقع القيادة بدل ردِّ الفعل، وتمنح صانع القرار قدرة أعلى على قراءة الالتزامات، وتوقع الضغوط، وإدارة الموارد بكفاءة أكبر، وتماشيًا مع تلك الرؤية يظهر دَوْر وزارة الماليَّة بوصفه دَوْرًا تحويليًّا يتجاوز إدارة الموازنات إلى بناء بنية ماليَّة حديثة قادرة على دعم السياسات الاقتصاديَّة، وتعزيز الانضباط المالي، وربط الصرف العام بأهداف التنمية. هذا المسار، الممتد حتَّى عام 2028، يعكس عقل دَولة يفضِّل الانتقال المتدرج المحسوب على القفزات السريعة، ويؤكِّد أنَّ تحديث الماليَّة العامَّة باتَ شرطًا أساسيًّا لضمان الاستدامة، لا خيارًا إداريًّا مؤجلًا. ويكتمل المشهد حين نضع هذه التحركات في إطارها الأوسع، حيثُ يظهر بوضوح أنَّ ما يجري تخطَّى فكرة التطوير المنفصل في الأدوات المصرفيَّة أو الأنظمة الحكوميَّة، وتحوَّل وفْقَ الرؤية الاقتصاديَّة الجديدة إلى بناء حالة انسجام نادرة بَيْنَ السياسة الماليَّة والسياسة النقديَّة، بما يُعِيد الثقة إلى قلب المعادلة الاقتصاديَّة، وهو انسجام يمنح السوق وضوحًا أكبر، ويمنح المستثمر قراءة مستقرة لقواعد اللعبة، ويمنح الدَّولة قدرة أعلى على توجيه النُّمو بدل مطاردته.. فحين تتحرك الخزانة العامَّة والبنوك والأنظمة الرقابيَّة ضِمن منطق واحد، تصبح القرارات أكثر تماسكًا، وتصبح الكلفة أقلَّ، وتتحول المخاطر من مفاجآت إلى سيناريوهات قابلة للإدارة. والأهم من ذلك أنَّ هذا المسار يعكس تصورًا واضحًا لِدَوْر الدَّولة في المرحلة المقبلة، للتحوُّل من دولة تدير الاقتصاد برد الفعل، لدولةٍ لا تترك المال يتحرك بمعزل عن الرؤية، وإنَّما تستخدم أدواتها الماليَّة لضبط الإيقاع، وتحفيز القِطاعات المنتِجة، وبناء استقرار طويل الأمد.. هنا تتجاوز الإصلاحات بُعدها الفنِّي لِتصبحَ رسالةً سياسيَّة اقتصاديَّة تقول إنَّ الاستدامة نتيجة طبيعيَّة لإدارة واعية تعرف متى تنضبط، ومتى تتحرك، وكيف توازن بَيْنَ الطموح والواقعيَّة.