الأربعاء 17 ديسمبر 2025 م - 26 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

الترجمة في العراق وآفاق المعرفة في العصر الحديث (1 -6)

الترجمة في العراق وآفاق المعرفة في العصر الحديث (1 -6)
الأربعاء - 17 ديسمبر 2025 02:22 م
20

مدخل:

بدأت الترجمة عندما تفاعل الزوجان الأولان مع بعضهما( )، ثم اتسعت مساحتها وازدادت اللغات التي تستخدم في هذا الحقل المعرفي والحضاري على مراحل حتى أصبحت الترجمة إحدى أهم الوسائل في تبادل المعرفة والانفتاح على الآخرين، وكانت الترجمة محصورة في اللغات الأكثر استخدامًا في العصور القديمة، لكنها سرعان ما شملت جميع اللغات بما فيها تلك التي لا يستخدمها إلا المئات. ونظرًا لأهمية الترجمة والحاجة الماسة لها فقد شهدت تطورًا في أساليب الترجمة وزيادة كبيرة في أعداد المترجمين، بينما سجلت الترجمة الآلية قفزات هائلة في ثورة الشبكة العنكبوتية خلال العقدين الماضيين.

يعرّف (يوجين نيدا) عالم نظريات الترجمة الأميركي الشهير، الترجمة على النحو الآتي: تتمثل الترجمة في إعادة إنتاج لغة المستقبل التي تعد الأقرب الطبيعي المكافئ للغة المصدر من حيث المعنى أولًا، وفي المصطلحات والأسلوب ثانيًا. ومع ذلك، فإن إعادة إنتاج (أقرب مكافئ طبيعي) في اللغة المستهدفة، يتأثر بشكل أو بآخر بـالاختلافات الثقافية، بسبب التباين في التواريخ والمواقع الجغرافية والعادات المحلية والمعتقدات الدينية، وما إلى ذلك( ).

ويتفق الجميع على أن الترجمة قد ساهمت في التلاقح الحضاري على أوسع نطاق؛ لكننا هنا نطرح فرضية أخرى، يمكن من خلالها تلمس أهمية الترجمة والدور الخطير الذي أدته عبر العصور المختلفة، وتقول فرضيتنا : ماذا لو بقي العالم بدون ترجمة؟ بدون شك أن هذه الفرضية ترسم صورة مغايرة للعالم الذي عاشته البشرية ونعيشه اليوم، ورغم استحالة وجود مثل هذه الفرضية في ضوء التواصل بين الأمم والشعوب، إلا أن رسم صورة للبشرية بدون ترجمة تٌظهر الدور الكبير والمؤثر للترجمة في حياة الشعوب والأمم وتطورها وانتقالاتها الحضارية الكثيرة والواسعة، ولو بقي العالم بدون الترجمة لبقى الفكر اليوناني في حدود لغته ومثل ذلك فلسفات الشرق وثقافاته، وجميع الأمم والشعوب، العربية والصينية والهندية والفارسية وغيرها، وصولًا إلى يومنا هذا، ولما اقتصر الأمر على الثقافات والفلسفات بل ستكون ثمة عقبات كبيرة أمام التبادل التجاري وصعوبات في وصول المنتجات المختلفة التي تظهر في الدول والبلدان إلى الشعوب الأخرى، ويتحقق بذلك الانغلاق شبه التام في حال غابت الترجمة تمامًا بدلًا من الانفتاح بين الأمم والشعوب الذي يتحقق على أوسع نطاق بفضلها.

وعند الشروع بإعداد هذه الورقة واجهنا معضلتين، الأولى: تتمثل في ضرورة الوقوف عند قضية الترجمة في العراق باللغات الموجودة في البلاد، والثانية: قلة المصادر التي تغطي الحقبة الزمنية المحددة في المؤتمر، لكن حاولنا قدر الإمكان تغطية ما يمكن الوصول إليه من معلومات.

ـ حركة الترجمة في العراق

يواجه الباحث في حقل الترجمة معضلة تتمثل في صعوبة الفصل بين الحقب الزمنية السابقة واللاحقة، كما تم تحديد ذلك في عنوان هذا المؤتمر العلمي، فعند الحديث عن الترجمة في العصر الحديث في العراق؛ لابد من الذهاب إلى بداياتها في العصر العباسي، والتوقف سريعًا عند أهم محطات الترجمة، خاصة أن مدينة بغداد كانت المحطة الأبرز على هذا الصعيد، كما أنه من الصعب جدا التوقف عند سقف زمني محدد بمطلع عقد الثمانينات من القرن العشرين، ففي العام 1980م؛ انطلقت أهم دار للترجمة والنشر في العراق، هي (دار المأمون للترجمة والنشر)، وقد أدت هذه الدار دورا مؤثرًا وكبيرًا في الترجمة بالاتجاهين، في حقل الترجمة من اللغات الحية إلى اللغة العربية وكذلك الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات العالمية الأخرى.

وقبل ذلك وفي العام 1976م، أسست وزارة الثقافة أول مؤسسة تعنى بالترجمة في العراق عرفت (بهيئة الترجمة المركزية)، ويمكن القول أن نشاطات دار المأمون قد وصلت إلى قمة عطائها خلال عقد الثمانينات من القرن العشرين، وتأثرت حالها حال المؤسسات العراقية الأخرى بسبب الحصار منذ عام 1990م؛ حيث غادرها عدد من مترجميها الذين بلغوا قرابة (76) مترجمًا في مختلف اللغات، تحت وقع العقوبات الاقتصادية والحصار.

وقد ترجمت الدار عناوين كثيرة "بين كتاب ورواية ومعجم وموسوعة في اللغة الانكليزية والفرنسية والاسبانية والروسية والالمانية، كما تفرعت آداب هذه اللغات إلى آداب الهند وأمريكا اللاتينية والصين وأفريقيا وأمريكا الشمالية. وأولت الدار أيضًا اهتماماَ خاصًا بترجمة مختارات من الأدب العراقي إلى اللغات الأجنبية بالإضافة إلى ترجمة الكتب الاجتماعية والفكرية القيّمة لمؤلفين وأدباء عراقيين بارزين. ومن الجدير بالذكر أن الدار تفضل التراجم من اللغات الاصلية التي تؤلف بها، وكذلك المؤلفات التي تفوز بجوائز أو شهادات عالمية بعد تقدير قيمة العمل من قبل لجنة تقويم النصوص في الدار"( ).

لم يقتصر نشر الكتب المترجمة على دار المأمون فقط، فقد واصلت (دار الشؤون الثقافية العامة) التابعة لوزارة الثقافة نشر مئات الكتب بما فيها الكتب المترجمة، كما نشرت المجلات الثقافية والأدبية المتخصصة مئات الدراسات والبحوث والأعمال الأدبية من: دراسات وروايات وشعر وقصص قصيرة من الأدب العالمي ضمن صفحاتها. وضمن هذا المشهد ظهرت العديد من المجلات، من بينها مجلة (آفاق عربية) العريقة، التي أسسها الشاعر الراحل شفيق الكمالي واستلم إدارتها لاحقًا الباحث والناقد الدكتور محسن الموسوي؛ لينقلها إلى آفاق مفتوحة وحقق لها مكانة وحضورًا بارزين في الحياة الثقافية العراقية والعربية، ومجلة (الكاتب) التي أسسها الباحث الراحل حميد المطبعي، وكان ذلك عام 1967م واستمرت بالصدور حتى العام 1975م، ومجلات عريقة أخرى كانت تشكل علامات مضيئة في الحياة الثقافية العراقية والعربية، مثل: مجلة (الأقلام) الأدبية الشهيرة ومجلة (المورد) الرائدة ومجلة (الطليعة الأدبية) المتخصصة بأدب الشباب، ومجلة (التراث الشعبي) المختصة بالدراسات الفولكلورية، وغيرها من المجلات والمطبوعات المهمة الأخرى ومجلة (الثقافة الأجنبية).

كما أن منتصف تسعينات القرن الماضي (العشرين) قد شهد إحياء أهم منصة للترجمة في تأريخ العراق والعالمين العربي والإسلامي، إنه (بيت الحكمة)، الذي أعيد تأسيسه سنة 1995م، بموجب قانون خاص به برقم (11) لسنة 1995م بغية إحياء دور بيت الحكمة العباسي أو كما سمي في حينها (خزانة الحكمة) الذي تأسس في بغداد (754م-775م) في عهد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور. وفي العام 1970م، تأسست جمعية المترجمين العراقيين في بغداد، كأول مؤسسة رسمية معنية بأمور المترجمين، ووضعت شروطًا للانتماء، ومنحت الإجازات لمكاتب الترجمة في كافة المحافظات العراقية.

وليد الزبيدي

كاتب عراقي

[email protected]