.. فتلك الضمة وجودها خطير، وشأنها جليل، وهي كناية عن تعب سيدنا شعيب - عليه السلام - مع قومه، وعدم التهاون في دعوتهم، وبقائه بينهم داعيًا ومنبّهًا، وشارحًا، وساهرًا عليهم حتى زادوا، وظهروا على الساحة الاجتماعية، كل ذلك ألقته إلينا تلك الضمة في الفعل الثاني، فهم هددوه أولًا في شخصه (لَنُخْرجَنَّك)، ثم عادوا فهددوا من معه (لتعودُنَّ)، وقد بين التهديدين فتح ما قبل النون في الأول، وضمها في الثاني، وهكذا أدت الضمة هنا معنى غير قليل، وبين الجهد الكبير، والتعب الكبير الذي قام به شعيب - عليه السلام - ولو لم نكن نعرف تقسيم نون التوكيد إلى مباشرة، وغير مباشرة وحكم كل واحدة نحويًا ودلاليًا - لما فهمنا الحكمة في فتح الأولى، والغاية الكبيرة، والهدف الأسمى من ضم الثانية، ومثله يقال تمامًا في تلك الآية:(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) (إبراهيم ـ 13).
وترى في الآية أنها تهديد لكل الرسل من الكفار على وجه التحديد، وكل من يستغفلون الشعوب، ويسخرون أهلها لصالحهم، وصالح شهواتهم، ومن معهم، تهديد في شخوص الأنبياء وجها لوجه، ثم تهديد مباشر آخر لمن آمنوا، واتبعوا الرسل والأنبياء من الخلق، الذين لا حول لهم، ولا طول، ويعذبون حتى يعودوا إلى ملة الكفر إن كانوا ضعفاء في اعتقادهم، أو يصبروا ويتحملوا القتل والتعذيب إن كانوا من ذوي الهمم الكبيرة، والاعتقاد الصحيح الذي يجعلهم يتحملون في الله كل بلاء، كما حدث مع سحرة فرعون عند إيمانهم، وتهديده لهم بالسحق وتقطيع الأوصال على عهد الطغاة والمتكبرين في الأرض كفرعون ومن لف لفه في العصر الحديث ممن وُصِفوا بالطاغية، فالضمة هنا وهناك تبين حجم التعب، ومدى التحمل، والصبر حتى وصل النبي أو الرسول لأن يتبعه هذا الكم الكبير من الناس، ويؤمنوا به، ثم يفاجؤون بالتهديد لهم والوعيد، والتنكيل بهم.
ـ النموذج الثالث هو: قوله تعالى:(وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (القصص ـ 87).
داء الفعل:(يَصُدُّنَّك) مضموم الدال رغم أنه موجّه إلى شخصه الشريف - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا ملمح كبير، وهو حقًّا خطير، حيث يحذر الله تعالى نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم ـ من كثرة من يصده عن آيات الله، ويمنعه عن سبيله، وهذا كناية عن كثرة المتربصين بالإسلام والمسلمين، وأنه يجب عليهم الحر، وأخذ الحيطة، والتنبه لألاعيب المرجفين، والذين يبغونها عوجًا، والذين يقفون في وجه الدين لأنه يسوي بين الغني والفقير، والخاص والعامة في الحقوق والواجبات، وهذا ما لا يقبلونه، كما أنهم يأكلون الحرام، ويعرفون طرقه، ويسلكون سبله، والإسلام بضوابطه وشرعه، وأحكامه يحرم ذلك كله، فسيفوتهم مالٌ كثيرٌ، وخيرٌ وفيرٌ كان يأتيهم تباعًا؛ ثم هم يصدون الناس عنه، وعندئذٍ يجب الوعي بأساليبهم، وإن بدت تعاونًا وحدبًا، لكنهم يبيتون بليلٍ ويمكرون، لكن الله يطلع رسوله الكريم، وينهاه أن يصده هؤلاء وهم كثر بدلالة واو الجماعة المحذوفة والمشار إليها بضم الصاد، فأصل الفعل:(ولا يصدون)، مسندًا إليه واو الجماعة، ومؤكدًا بنون التوكيد الثقيلة (يصدون+ نْنَ)، فَحُذِفَتْ واوُ الجماعة لالتقاء الساكنين، ثم حذفت نون الرفع لعلة (لا) الناهية، ثم أدغِمَتِ النونُ في النون، وكلها أعمال تبيِّن سعة الصَّدِّ، وتنوُّع صوره، وتعدُّد أشكاله، وصنوفه، فهم لا يكسلون، وفي اختراع متابع لوسائل الصد، وطرائق إبعاد الناس عن الدين، والجراءة منهم أنهم يذهبون إلى المنبع نفسه، إلى الرسول الكريم، والتحيُّر موجَّه إلينا في صورة شَخْصِهِ الشريف، فهذه الضمة خطيرة، ومثيرة للذهن، والفكر، والعقل، وتشغل بال المؤمن القوي، العارف بربه، الحامل قضايا دينه الدعوية، الخائف على مهمته، ورسالته، الساهر على أجمل وأشرف، وأكمل مهمة خلقه الله لها:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، ونحو:(قُل هَذِهِ سَبِيلي أَدعُو إِلى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اِتَبَعنِ)، ونحو:(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا، وَقَالَ إِنّني مِنَ المُسلِمين).
د.جمال عبدالعزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية