الأربعاء 17 ديسمبر 2025 م - 26 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : زيارة تعيد صياغة الشراكة بعين المستقبل

الأربعاء - 17 ديسمبر 2025 03:25 م

رأي الوطن


تُشكِّل العلاقات العُمانيَّة الهنديَّة نموذجًا نادرًا لعلاقات دوليَّة تأسَّست على التَّراكُم التَّاريخي قَبل أنْ تتشكَّلَ في قوالب السِّياسة الحديثة، حيثُ امتزجتِ التِّجارة بالبحر، والثَّقافة بالحركة، والمصالح بالثِّقة المتبادلة عَبْرَ قرونٍ طويلة من التَّواصُل. ومن هنا تأتي أهميَّة زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ولقائه بحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه. فهذا العُمق التَّاريخي للعلاقات الممتدَّة منَحَ العلاقة قدرةً على التَّطوُّر الهادئ، وجعلَها مؤهَّلةً اليوم للدخول في مرحلة أكثر نضجًا تَقُوم على الرُّؤية الاقتصاديَّة المشتركة. كما تحمل الزِّيارة أهميَّة خاصَّة؛ كونها تعكس إدراكًا متبادلًا بأنَّ المرحلة المُقبلة تفرض الانتقال من منطق العلاقات الوديَّة إلى منطق الشَّراكات المحسوبة الَّتي تُدار بِعَيْنِ المستقبل.. فالزِّيارة تأتي في لحظةٍ يُعاد فيها تشكيل الاقتصاد العالمي وسلاسل الإمداد، وتبحث فيها الاقتصادات الكبرى عن شركاء يتمتَّعون بالاستقرار والموثوقيَّة، والقدرة على أداء أدوار لوجستيَّة واستثماريَّة فاعلة.. وهنا تبرز عُمان بوصفها شريكًا يتمتَّع بموقع استراتيجي ورؤية تنمويَّة واضحة، فيما تُمثِّل الهند قوَّةً اقتصاديَّة صاعدة تسعى إلى توسيع نطاق حضورها عَبْرَ شراكات طويلة الأمد، ما يجعل هذه الزِّيارة خطوةً مفصليَّة في إعادة صياغة العلاقة الاقتصاديَّة بَيْنَ البلدَيْنِ على أُسُسٍ أكثر عُمقًا وتأثيرًا.

وعِندَ الانتقال من الرُّؤية إلى الأرقام، تتكشف صورة أكثر تعقيدًا للعلاقة الاقتصاديَّة بَيْنَ البلدَيْنِ، صورة تؤكِّد قوَّة الشَّراكة من جهة، وتطرح تحدِّيات التَّوازن من جهة أخرى. فحجم التَّبادل التِّجاري يعكس حضورًا هنديًّا واضحًا في السُّوق العُماني، مع تدفُّقات واردات تفوق الصَّادرات العُمانيَّة، وهو واقع اقتصادي يستدعي قراءة هادئة.. فهذا الاختلال لا ينتقص من متانة العلاقة، غير أنَّه يفرض ضرورة الانتقال من نموذج يعتمد على حركة السِّلع إلى نموذج أعمق يَقُوم على الاستثمار المشترك وبناء القِيمة المُضافة داخل سلطنة عُمان، وتبرز اتفاقيَّة الشَّراكة الاقتصاديَّة الشَّاملة بوصفها محطَّة مفصليَّة، حيثُ تتجاوز كونها إطارًا تجاريًّا إلى اختبار حقيقي لقدرة المؤسَّسات على توجيه الانفتاح الاقتصادي بما يخدم أولويَّات التَّنويع ورؤية «عُمان 2040»، والرِّهان هنا يرتبط بقدرة الاتفاقيَّة على فتح مسارات جديدة للصَّادرات العُمانيَّة، وتحفيز توطين الصِّناعات، وربط السُّوق المحلِّي بسلاسل إنتاج إقليميَّة أوسع، بما يُحوِّل الشَّراكة العُمانيَّة الهنديَّة إلى علاقة متوازنة تستند إلى المصالح طويلة الأمد لا إلى حركة الاستيراد وحدها.

وتتجسَّد ملامح التَّحوُّل الحقيقي في العلاقة العُمانيَّة الهنديَّة عِندَ التوقُّف أمام القِطاعات الاستراتيجيَّة الَّتي تُشكِّل ركيزة الاقتصاد العالمي في المرحلة المقبلة، وفي مقدِّمتها الطَّاقة النَّظيفة، والموانئ واللوجستيَّات، والاقتصاد الرَّقمي، والصِّناعات الدوائيَّة. فالتَّعاون في مشروعات الهيدروجين الأخضر والأمونيا يعكس إدراكًا مشتركًا بأنَّ الطَّاقة لم تَعُدْ ملفًّا تقنيًّا فقط، وإنَّما مدخل لإعادة توزيع النُّفوذ الاقتصادي وبناء شراكات طويلة الأمد، حيثُ تمتلك سلطنة عُمان المُقوِّمات الجغرافيَّة والموارد الطبيعيَّة، فيما تمتلك الهند الخبرة الصناعيَّة والقدرة على التَّوَسُّع التِّجاري. أمَّا على مستوى الموانئ فيُعِيد الرَّبط البحري عَبْرَ صحار والدُّقم وصلالة صياغة دَوْر السَّلطنة بوصفها جسرًا لوجستيًّا يربط أسواق آسيا بالمنطقة، بما يُسهم في خفض كلفة سلاسل الإمداد، وتعزيز مكانة عُمان داخل شبكات التِّجارة الإقليميَّة. ويكتمل هذا المسار مع فرص التَّعاون في الاقتصاد الرَّقمي والصِّناعات الدوائيَّة، حيثُ تبرز إمكانيَّة الانتقال من الاستيراد إلى الإنتاج المشترك ونقل المعرفة، بما يُحوِّل هذه القِطاعات من فرص نظريَّة إلى سلاسل قِيمة حقيقيَّة تدعم التَّنويع الاقتصادي وتمنح الشَّراكة بُعدًا استراتيجيًّا مستدامًا.

إنَّ هذه الزِّيارة تعكس بوضوح الفكر السَّامي لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ القائم على إدارة العلاقات الدوليَّة بعقل استراتيجي يرى في الاستقرار السِّياسي رافعةً للتَّنمية الاقتصاديَّة، وفي الشَّراكات المتوازنة أداةً لتعظيم المصالح الوطنيَّة على المدى الطَّويل، ومنَحَ النَّهج السَّامي المتَّزن والرُّؤية الحكيمة البلاد مكانةً موثوقة في حسابات القوى الاقتصاديَّة الصَّاعدة، وجعَلَها شريكًا مفضلًا في عالم يبحث عن اليقين وسط اضطراب الأسواق. وفي هذا الإطار تكتسب الشَّراكة العُمانيَّة الهنديَّة معناها الأعمق، حيثُ تنتقل من مستوى الرُّؤية إلى متطلبات التَّنفيذ العملي عَبْرَ تفعيل دَوْر القِطاع الخاصِّ، وتطوير البيئة التنظيميَّة، وتحويل الاتفاقيَّات إلى برامج إنتاج واستثمار حقيقيَّة. هكذا تتجسَّد السِّياسة الهادئة في صورة اقتصاد منتِج، وتتحوَّل الزِّيارات رفيعة المستوى إلى مسارات عمل تخدم أهداف رؤية «عُمان 2040»، وتؤسِّس لشراكات قادرة على الصُّمود في وجْهِ تحوُّلات عالميَّة متسارعة.