بَيْنَما ينشغل الإعلام والمعلِّقون والمحلِّلون باستبدال دبلوماسي بلغاري بتوني بلير في لجنة ترامب لإدارة غزَّة بعد الحرب، تستمر جرائم الاحتلال الصهيوني تجاه الفلسطينيين ليس فقط في غزَّة، وإنَّما في الضفَّة وبقيَّة فلسطين المُحتلَّة. وباستثناء بعض مظاهرات في مُدن غربيَّة يخرج فيها من ما زال لدَيْهم قدر من الإنسانيَّة لا نسمع صوتًا يعترض على تلك الجرائم. فالاحتلال ما زال يخنق قِطاع غزَّة بمنع دخول المساعدات المكدَّسة خارج القِطاع. ويموت الفلسطينيون من البرد بعدما جرفت الأمطار خيامهم البسيطة أو من انهيار جدران ما تبقَّى من بنايات دمَّرها قصف الاحتلال الصهيوني فوق رؤوس مَن يحتمون بها. وتقول الأُمم المُتَّحدة إنَّ لدَيْها ما يكفي من خيام وكرفانات لحماية المدنيين في غزَّة، لكنَّ سُلطات الاحتلال ترفض إدخالها. لم يتوقف القصف الصهيوني، وقتل الفلسطينيين في غزَّة بالنيران وإن خفَّت وتيرته؛ كَيْ يتمكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب من القول إنَّه «أوقف حرب غزَّة».
منذ الإعلان عن خطَّة ترامب بشأن غزَّة في شهر أكتوبر الماضي، صعَّد الاحتلال جرائمه في الضفَّة الغربيَّة، سواء على يد الجيش أو المستوطنين المسلَّحين الَّذين يحميهم الجيش. مئات الأُسر الفلسطينيَّة فقدَتْ منازلها وأرضها، واقتلعت جرَّافات الاحتلال أشجار الزيتون الَّتي تخصُّها. هذا طبعًا بالإضافة إلى قتل الأبرياء في المُدن والبلدات والمُخيَّمات الفلسطينيَّة في الضفَّة. وفي أحدث تلك الجرائم طرد فلسطينيين من بيوتهم في سلوان بالقدس ومنحها لمستوطنين متطرفين استمرارًا لعمليَّات «التطهير العِرقي» الَّتي تقوم بها سُلطات الاحتلال العنصري في فلسطين. المُحزن حقًّا أن لا أحد في المنطقة يهتم بالجريمة المستمرة للقضاء على الوجود الفلسطيني في فلسطين، إمَّا خشيةً من حكومة الاحتلال المتطرفة أو لعدم إغضاب الأميركي الدَّاعم للاحتلال. كُلُّ ذلك على أمل التطبيع ـ ولا مؤاخذة السلام ـ مع عدوٍّ لا يعرف احترامًا لقانون أو التزامًا بعهدٍ أو اتفاق.
كُلَّما استمرَّ هذا الصَّمت العربي، الرسمي وغير الرسمي، والتجاهل العالمي عن الجريمة المستمرة لن يجد الساعون لِمَا تُسمَّى «تسوية» ما يُمكِن تسويته، هذا إذا وصل الأمر إلى تسوية فعلًا. فقتل الفلسطينيين أو اقتلاعهم من بيوتهم وأراضيهم مستمر على قَدَمٍ وساقٍ، ولا أحد يعترض ولا حتَّى «السُّلطة الفلسطينيَّة» في رام الله. وأعضاء حكومة التطرف العنصري للاحتلال يتبارون في تمويل بناء المستوطنات على أراضي الفلسطينيين، أو ما تبقَّى منها في الواقع. ولا أتصور أن اتِّخاذ موقف تجاه تلك الإجراءات العدوانيَّة يُمكِن أن يعيق أيَّ مفاوضات أو محادثات بشأن غزَّة. فحتَّى الحدُّ الأدنى من محاولة توثيق الجرائم عَبْرَ المؤسَّسات الدوليَّة لا يحدث. إنَّ مَن يتصور أنَّه يسعى لحقن دماء الأبرياء من الفلسطينيين بالتغاضي عن الجرائم اليوميَّة للاحتلال إنَّما يشجِّع على زيادة تلك الجرائم في الوقت الَّذي لا يحقن فيه دماءً ولا ينقذ حياة.
قَبل طغيان اليمين المتطرف العنصري على مُجتمع الاحتلال كانت هناك جماعات حقوقيَّة توثِّق تلك الجرائم وتصدر تقارير تندِّد بها. لكن ـ للأسف ـ لم تلقَ تلك الجماعات أيَّ دعم وتأييد، بل تعرضت للهجمات من أنصار الصهاينة الَّذين اتَّهموها دومًا بأنَّها «تدعم الإرهاب» بتوثيقها الجرائم ضدَّ الفلسطينيين. خفَتَ صوت تلك الجماعات واختفى بعضها في خضمِّ موجة التطرف والعنصريَّة الطاغية. وبعدما أصدرت حكومة سابقة لنتنياهو عام 2018 قانون «يهوديَّة الدولة» أصبحتِ العنصريَّة مؤطَّرة بالقانون، ما جعل تلك المنظَّمات والجمعيَّات في وضعٍ خطرٍ قانونيًّا. ويجري حاليًّا العمل على قانون أشدّ طائفيَّة وعنصريَّة يحدِّد «يهوديَّة» المواطن بتأييده المطْلَق لجرائم الاحتلال الصهيوني. رُبَّما لا يكُونُ ذلك غريبًا على كيان قائم على ضرورة استمرار الحرب وذخيرة بقائه هي الكراهية والإجرام تجاه الآخرين. لكنَّ السكوت عن ذلك وعدم فضحه وكشفه في سياق الاعتراض على الإبادة الجماعيَّة والتطهير العِرقي للفلسطينيين لا يُمكِن أن يكُونُ من باب «الواقعيَّة السياسيَّة» من قِبل بقيَّة الناس في المنطقة والعالم. إنَّ الموقف ممَّا يجري في فلسطين ليس فقط من أجْلِ الفلسطينيين، الَّذين يعانون منذ ما يقارب القرن من القتل والتهجير والتدمير. ولا حتَّى من أجْلِ ما كان يُسمَّى «الأمن القومي» لدول الطَّوق. إنَّما هو من أجْلِنا نحن، من أجْلِ إنسانيَّتنا.
تلك الإنسانيَّة الَّتي جعلت عددًا من المقبوض عليهم في بريطانيا لتظاهرهم ضد مجازر غزَّة يضربون عن الطعام لِنَحْوِ شهر ونصف الآن، ويكاد بعضهم يفقد حياته نتيجة تدهور الحالة الصحيَّة بسبب الإضراب. هؤلاء ليسوا عربًا وأغلبهم ليسوا مسلِمِين، إنَّما هم بشر لدَيْهم من الحسِّ الإنساني ما يجعلهم مستعدِّين للموت دفاعًا عن قضيَّة يرونها عادلة. لقد تظاهروا والآن يضربون عن الطعام في محبسهم دفاعًا عن إنسانيَّتهم. صحيح أنَّ اليمين المتطرف يصعد في العالم وتطفو العنصريَّة أكثر على السطح، لكن يظل هناك بشر على قدر من الإنسانيَّة يقفون في وجْه الظلم والجرائم ضد الإنسانيَّة. ولا شك أنَّ في منطقتنا وبَيْنَ شعوبنا مَن لا يقلُّ إنسانيَّة عن هؤلاء في مناطق العالم المختلفة ويشعرون بالغضب وهم يشاهدون قنص الاحتلال للفلسطينيين وهجمات المستوطنين على الأُسر وطردها من بيوتها واقتلاع مزروعاتها. لكن ـ للأسف ـ لا نعبِّر عن ذلك، ولا حتَّى بأضعف الإيمان كأن نوثِّق الجرائم المستمرة للاحتلال.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري