الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 م - 25 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : الأمن الغذائي من المفهوم إلى السيادة الصناعية

الثلاثاء - 16 ديسمبر 2025 04:01 م

رأي الوطن

150


لم يَعُدِ الأمن الغذائي في عالم اليوم ملفًّا خدميًّا يُدار بمنطق توافر السِّلع في الأسواق، ولا قضيَّة فنيَّة تحلُّ عَبْرَ الاستيراد عِندَ الحاجة، وإنَّما تحوَّل إلى أحد أعمدة الاستقرار الوطني، ومؤشِّر صريح على قدرة الدول على حماية مُجتمعاتها واقتصاداتها في أوقات الاضطراب، والتَّجارب القاسية الَّتي مرَّ بها العالم خلال الأعوام الأخيرة من جائحة كورونا «كوفيد١٩»، إلى اختناقات سلاسل الإمداد والحروب الَّتي أعادتِ السِّياسة إلى قلب التِّجارة، كشفتْ أنَّ الغذاء حين يُترك لتقلُّبات السُّوق يصبح أداة ضغط، خصوصًا السِّلع الأساسيَّة مثل الحبوب والسكر...إلخ، وحين يُدار برؤية استراتيجيَّة يتحول إلى عنصر سيادة. فالأمن الغذائي في جوهره يعني امتلاك القرار قَبل امتلاك السِّلعة، وبناء منظومة متكاملة تَضْمن الاستمراريَّة، وتخفِّف الارتهان للخارج، وتحمي المُجتمع من صدمات مفاجئة قد تبدأ بسعر شحنة وتنتهي بارتباك اقتصادي واسع.. هذه الحقيقة دفعت دولًا كثيرة إلى إعادة تعريف أولويَّاتها، والنَّظر إلى الغذاء بوصفه استثمارًا في الاستقرار طويل الأمد، لا عبئًا على الميزانيَّة، وهو الإدراك الَّذي يفرض نَفْسه اليوم كجزء لا يتجزأ من أيِّ رؤية تنمويَّة جادَّة.

وانطلاقًا من هذا الإطار المفاهيمي، جاء افتتاح مصنع عُمان لتكرير السكَّر في ميناء صحار والمنطقة الحُرَّة، كترجمة عمليَّة لهذا الفَهْمِ المتقدِّم للأمن الغذائي، وكخطوة محسوبة تنقل الفكرة من مستوى الخِطاب إلى أرض الإنتاج. فالمشروع، الَّذي تتجاوز كلفته الاستثماريَّة (150) مليون ريال عُماني، يكتسب دلالته من كونه أوَّل مصنع لتكرير السكَّر في سلطنة عُمان، ومن موقعه داخل منظومة صناعيَّة ولوجستيَّة متكاملة، ترى في الغذاء صناعة استراتيجيَّة، ما يعكس إدراكًا سياسيًّا واقتصاديًّا لطبيعة المشروع وأبعاده، باعتباره جزءًا من مسار وطني يستهدف توطين الصِّناعات الغذائيَّة وتقليل الاعتماد على الاستيراد الخارجي، فَهُنا انتقال واعٍ من استيراد المنتَج النّهائي إلى التحكُّم في مرحلة حسَّاسة من سلسلة القِيمة، بما يمنح السُّوق المحلِّي قدرًا أعلى من الاستقرار، ويُعزِّز قدرة السَّلطنة على إدارة احتياجاتها الأساسيَّة بثقة أكبر، خصوصًا وأنَّ المصنع، بتقنيَّاته الأوروبيَّة المتقدِّمة واستعداده للتَّشغيل التِّجاري التَّدريجي، يقدِّم نموذجًا واضحًا لكيف يُمكِن للصِّناعة التحويليَّة أنْ تُصبحَ أداة سيادة اقتصاديَّة، وجسرًا يربط بَيْنَ الأمن الغذائي والتَّنويع الاقتصادي، ضِمن رؤية ترى في الاستثمار الصِّناعي رافعة استقرار طويل الأمد.

إنَّ أكثر ما يُميِّز هذا المصنع الوليد أنَّ أثَره يمتدُّ إلى ما هو أبعد من حدود المصنع ذاته، لِيصيبَ صميم المنظومة الصناعيَّة في ميناء صحار والمنطقة الحُرَّة، حيثُ يتأكد مرَّة أخرى أنَّ الرِّهان الوطني على الموانئ لم يكُنْ يومًا رهان عبور أو تخزين، وإنَّما رهان إنتاج وتكامل. فوجود مصنع بهذا الحجم والطَّاقة داخل صحار يُعزِّز التَّحوُّل الجاري في وظيفة الميناء من بنية لوجستيَّة خدميَّة إلى منصَّة صناعيَّة إقليميَّة متقدِّمة، تتشابك فيها خطوط الإنتاج مع سلاسل الإمداد، وتتداخل فيها حركة الاستيراد بالتَّصنيع وإعادة التَّصدير. فالطَّاقة الإنتاجيَّة الَّتي تبلغ مليون طن سنويًّا، والبنية التخزينيَّة الواسعة الَّتي تشمل مئات الآلاف من الأطنان، تمنح صحار ميزة تنافسيَّة حقيقيَّة في قِطاع الصِّناعات الغذائيَّة، وتضع السَّلطنة في موقع متقدم داخل خريطة تجارة السكَّر الإقليميَّة، وهذا التَّكامل بَيْنَ الميناء والمنطقة الحُرَّة والصِّناعة التحويليَّة يعكس فهمًا عميقًا لاقتصاديَّات الموقع، حيثُ تتحول الجغرافيا من مجرَّد مساحة إلى قِيمة مضافة، ويصبح الاستثمار الصِّناعي رافعة لتطوير سلاسل أخرى مرتبطة به، من التَّعبئة والتَّغليف إلى النَّقل والخدمات، بما يفتح آفاقًا لتوسعات صناعيَّة لاحقة، ويُعزِّز دَوْر صحار كمحرِّك رئيسٍ في مسار التَّنويع الاقتصادي، ضِمن نموذج تنموي يربط بَيْنَ البنية الأساسيَّة والقرار الصِّناعي ربطًا عضويًّا طويل النَّفَس.

إنَّ المعنى الأوسع لهذا المشروع يتصل مباشرة بمستقبل السِّياسة الاقتصاديَّة الوطنيَّة، حيثُ تتجلَّى قِيمة مثل هذه الاستثمارات في قدرتها على الجمع بَيْنَ الأمن الغذائي والتَّنويع الاقتصادي وبناء الثِّقة طويلة الأمد في البيئة الاستثماريَّة. فمصنع عُمان لتكرير السكَّر يقدِّم نموذجًا عمليًّا لِمَا يُمكِن أنْ تصنعَه الشَّراكة الفاعلة بَيْنَ القِطاعين العامِّ والخاصِّ حين تُدار برؤية واضحة وأهداف محدَّدة، رؤية ترى في الصِّناعة التحويليَّة أداة لتقليل المخاطر ووسيلة لرفعِ كفاءة الاقتصاد، لا نشاطًا إنتاجيًّا معزولًا، والأثر هنا يُقاس بجانب حجم الإنتاج وأرقام التَّخزين، بما يخلقه المشروع من فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، وما ينقله من معرفة، وما يرسِّخه من معايير جودة وسلامة واستدامة ترفع سقف التنافسيَّة، وفي لحظة عالميَّة تتسابق فيها الدول على تأمين غذائها وسلاسل إمدادها، تبدو هذه الخطوة رسالة واضحة بأنَّ سلطنة عُمان تمضي بثبات نَحْوَ امتلاك أدواتها الاقتصاديَّة وبناء منظومات قادرة على الصُّمود والتَّوَسُّع معًا، فالأمن الغذائي حين يبنى على صناعة، ويتكامل مع الموانئ، ويتصل برؤية تنمويَّة شاملة، يتحوَّل من ملف احترازي إلى رافعة استراتيجيَّة.