في أيَّامنا هذه، نتعامل مع أناس كثر من حَوْلِنا ومع شخصيَّات متعدِّدة في مُجتمعنا، وأحيانًا قد لا نلاحظ أنَّ فردًا ما يعاني بهدوء من اكتئاب شديد، متخفيًا وراء الهدوء الظاهري. رُبَّما ستدرك كيف أنَّ ذلك الفرد كان دقيقًا في مواعيده وأنيقًا في مظهره، بل وأحيانًا لن نلاحظ دموعه أو انفعاله، ولا حتَّى مظاهر يأس مبالغ فيها. بل على العكس سيبدو لك ذلك الشخص مرتاحًا، كما لو أنَّ صراعًا داخليًّا قد وصل إلى نهايته!
والأمر المُهمُّ الَّذي يَجِبُ أن نعيَه هنا، أنَّ الاكتئاب لا يعلن دائمًا عن نفسه بالحزن. خصوصًا ـ وللأسف ـ في أشكاله الأكثر خطورة، والَّذي يتجلى في هدوء عاطفي وجمود فكري. وهنا حقيقة ما يَجِبُ أن يقلقنا، وذلك لأنَّ الأبحاث النفسيَّة بَيَّنَت أنَّ بعض المرضى الَّذين يعانون من اكتئاب حادٍّ يعانون من ضيق في الخيارات الذهنيَّة، فيبدو المستقبل بعيد المنال! وفي هذه الحالة، لا ينظر ذلك المريض إلى الموت كفعل عاطفي، بل كحَلٍّ منطقي وهنا الكارثة. وعليه فأحيانًا ذلك الإنكار اللفظي للنيَّة الانتحاريَّة لأولئك المرضى لا يعني بالضرورة السلامة. كيف لا؟ والأكثر عرضة للخطر هم أولئك الَّذين تجاوزوا مرحلة التردد!
من ناحية أخرى، عندما تتابع ذلك المريض ستدرك أنَّه ليست لدَيْه أوهام، ولا هلوسات، ولا انفصال عن الواقع. بل دائمًا أكان هو أو هي بإمكانهم شرح أنفسهم. المدهش أنَّ عِلم الأعصاب يخبرنا هنا بأنَّ الاكتئاب المطول يغيِّر قدرة الدماغ على تخيُّل المستقبل. ولعلِّي لا أتعمد أن يكُونَ هذا مجازًا، فالدوائر العصبيَّة المسؤولة عن التوقع والمكافأة تصبح أقل استجابة في حالة الاكتئاب. بمعنى أنَّه عندما يقول المرضى إنَّهم لا يرون سبيلًا للمُضي للأمام فإنَّهم عادة ما يصفون قصورًا معرفيًّا وليس تشاؤمًا كما نعتقد دائمًا!
وهكذا قد لا يدرك غير المختص كيف أنَّ هدوء مريض الاكتئاب رُبَّما كان أخطر الأعراض على الإطلاق. وذلك لِما يصحبه من خطر الانتحار، خصوصًا عند زوال الصراع الداخلي. فعندما ينتهي هذا الجدال المرهق، غالبًا ما يبدو المرضى أكثر صفاء ووضوحًا، حتَّى أنَّه قد يبدو للعَيْنِ غير الخبيرة تحسنًا لكنَّ حقيقته أنَّه كارثة! وحقيقة وأنا أتحدث هنا عن مريض الاكتئاب، أدركت أنَّه لم يكُنْ ضعيفًا، ولم يكُنْ منفصلًا عن الواقع. بل سنجد أحيانًا مرضى الاكتئاب مرضى بطريقة لم تكُنْ واضحة. وللأسف هذا يذكرني ـ بمرارة ـ بأنَّ أكبر نقاط الضعف في الطِّب غالبًا ما تكمن حيثُ تبدو الأمور تحت السيطرة!
ختامًا، تابعوا أبناءكم وأقرباءكم باهتمام، خصوصًا أولئك الَّذين قد شخّصوا بالاكتئاب، وأنصتوا لهم باهتمام مختلف. فلم يَعُد الهدوء يطمئن لعددٍ من أشكال هذا الاضطراب. بل ورُبَّما يَجِبُ أن نُولِيَ اهتمامًا أكبر للخواتيم الخفيَّة في الجُمل العاديَّة لذلك المريض، خصوصًا وأنَّنا تعلَّمنا أنَّ بعض أخطر القرارات لا تُتخذ في لحظات الأزمات، بل في لحظات تبدو فيها السكينة غريبة...حفظكم الله!
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي