جاء في المادة (١٥) من النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (6/2021) «الأُسرة أساس المُجتمع، قوامها الدِّين والأخلاق والوطنيَّة، وتعمل الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قِيَمها..» تأكيدًا لموقع الأُسرة العُمانيَّة في عرين الوطن، وخط الدفاع الأول في مواجهة التحوُّلات الاجتماعيَّة السلبيَّة، واستلهامًا من لدُن المقام السَّامي بتزايد ما يَدُور في فلك التقنيَّة من محاذير، وما نتج عن الارتماء في أحضانها من تأثير على فِقه النشء وقِيَمه وأخلاقه، وقناعاته وأفكاره في ظل الاستغلال السلبي لها، والنظرة الضيقة في التعاطي معها؛ إيمانًا من جلالته بأنَّ سلامة الأُسرة وصلاحها وقوَّة التزامها بالمبادئ والموجهات، وحفاظها على الثوابت والأولويَّات، مرتكزات تَضْمن لها الريادة والقيادة، وتعزيز قدرتها على رسم معالم الطريق لحياة هانئة هادفة للأجيال؛ فقد جاء في عاطر النطق السَّامي: «أنَّ تربية الأبناء لا تتم عَبْرَ شبكات التواصل الاجتماعي، بل هي جزء من أصل المُجتمع العُماني»، وأنَّه «عندما يتشرب أبناؤنا عاداتنا وتقاليدنا والتمسك بالأُسرة والمُجتمع يتحقق نجاح المُجتمع»، كما أنَّ «التقنيات الحديثة وُجدت لخدمة البشريَّة، لكنَّنا مع الأسف نستغلها بطريقة سلبيَّة جدًّا، وقد أثَّرت على النشء، ليس في بلدنا وحسب ولكن في جميع أنحاء العالم». ووجَّه جلالته أفراد المُجتمع إلى المحافظة على «إرثنا وترابطنا الاجتماعي، وعلى تربية أبنائنا وبناتنا التربية الصالحة»؛ موجهات للعمل الوطني لبناء وتشكيل الوعي الجمعي للأُسرة العُمانيَّة وإعادة رسم ملامح العمل الوطني المقدم للأُسرة العُمانيَّة منذ بدء تشكيلها، وبناء منهجيَّات أكثر جديَّة، ونماذج عمل أكثر ابتكارًا ومهنيَّة، تتناغم مع عُمق التحوُّلات الاجتماعيَّة الَّتي يُشهدها الواقع المعاصر، وإنتاج ثقافة مُجتمعيَّة قادرة على التمييز بَيْنَ الإيجابي والسلبي والثوابت والمتغيرات والقِيَم والعادات والنماذج والمؤثرات عَبْرَ تبنِّي منهجيَّات عمل رصينة ومحكمة، ومؤشِّرات أداء قابلة للقياس، ومسارات تشخيص وتقييم دقيقة، إلى جانب خطط عمل زمنيَّة تحدّد بوضوح المسؤوليَّات والمهام تعزِّز من كفاءة الدَّوْر المحوري للأُسرة العُمانيَّة مستفيدة من تجارب وخبرات الآباء والأجداد والسَّمت العُماني الأُسري الَّذي شكَّل موجهات أصيلة حافظت على كينونيَّة وأصالة الأُسرة العُمانيَّة.
وعليه، فإنَّ جعل الأُسرة مشروع عُمان الحضاري القادم، يؤسِّس اليوم لمرحلة متقدمة من العمل الوطني الكفء الَّذي يتجه إلى تحقيق أولويَّات أساسيَّة هي:
أولًا: إعادة الهيبة لِدَوْر الأُسرة والتربية الوالديَّة
وبالتالي إعادة الهيبة للأُسرة العُمانيَّة في فِقه الناشئة بأهميَّة احترامه وتقديره، وتأكيد المحافظة عليه، من خلال تشجيع الزواج، وتعميق قِيَم تكوين الأُسرة والمحافظة عليها، وتصحيح الصورة السلبيَّة حَوْلَ ما يعنيه الزواج من التزام ومسؤوليَّات وواجبات أُسريَّة. وتأكيد منهج التوازن في هيكليَّة بنائها والتجديد فيها بما يحفظ لها هُوِيَّتها العُمانيَّة وما تنعم به من روح التسامح والتناغم والمشتركات الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والسلوكيَّة، وتقاسم المسؤوليَّات والَّتي هي انعكاس لقِيَم الإسلام العظيمة، وتوظيف المفاهيم والمفردات المرتبطة بالطموح والاحتياج والاستقلاليَّة والحُريَّة والصلاحيَّات والتمكين والثقة والاحترام والمودَّة والرَّحمة والخيريَّة والقول الحسَن كمنطلقات لاستمراريَّة نجاح الأُسرة وقدرتها على التكيُّف مع الواقع المتجدِّد، ومساهمتها في إنتاج ثقافة مُجتمعيَّة قادرة على الاستدامة والصمود في مواجهة المتغيرات المقلقة، وبالتَّالي الحاجة إلى المزيد من الوعي بهذا الدَّوْر والمسؤوليَّة، واستشعار ما تقوم به في إطار التمكين والرعاية والحماية والوعي، وتعزيز وجود التشريعات والقوانين وفرض المعايير الَّتي تحفظ للأُسرة والتربية الوالديَّة موقعها في المنظومة الاجتماعيَّة، ويوفِّر للكيان الأُسري مُقوِّمات القوَّة وأدوات النجاح، فيقترب القانون من الواقع، ويمارس خلاله دَوْر الناصح الرشيد والموجّه الحاذق والدَّاعم لتغيير السلوك، وتأكيد التناغم بَيْنَ ما تحمله هذه التشريعات من أحكام وقواعد، وما تنشده من أمان واطمئنان واستقرار.
ثانيًا: اجتثاث جراثيم الهدر ومنغصات الاستقرار
تستدعي التراكمات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة الَّتي باتتْ تهدِّد حياة الأُسرة، وما أفرزته من جراثيم خطرة، وجود إطار وطني لحماية الأُسرة، والوقوف على الواقع الأُسري بتحدِّياته ومنغِّصاته والتزاماته وأولويَّاته، ومستوى التناغم القائم بَيْنَ أفراد الأُسرة، وأسباب التباعد، وحالات التنمُّر الَّتي تعيشها بعض الأُسر، إضافة إلى الظواهر النفسيَّة والاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والفكريَّة الَّتي باتتْ تُرصد وتُفصح عنها كثرة وتنوع الدعاوى الأُسريَّة المسجَّلة في المحاكم، والادعاء العام، وشرطة عُمان السُّلطانيَّة، أو الَّتي تعكسها إحصائيَّات وزارة التنمية الاجتماعيَّة، مثل جنوح الأحداث، والتسوُّل، والتحرش، وحوادث الأطفال، وعقوق الوالدين، ومراكز إيواء كبار السِّن، حيثُ تفصح هذه المؤشِّرات عن تأثيراتها المباشرة في إنتاجيَّة الأُسرة وصحَّتها النفسيَّة، الأمر الَّذي يتطلب الوقوف الجادَّ عليها، ورصدها وتحليلها ودراستها، وفَهْم المتغيرات والعوامل الَّتي أدَّت إليها، والظواهر الأُسريَّة الَّتي باتتْ تسيء إلى وحدة المكوِّن الأُسري وتماسكه، وتحقيق التعاون والتكامل والمسؤوليَّة بَيْنَ عناصره.
وبالتَّالي أن يرافق هذا الإطار الوطني مرجعيَّات تشريعيَّة وتوعويَّة وضبطيَّة وتعليميَّة وتثقيفيَّة في مواجهة الظواهر الفكريَّة مثل الخروج السافر للمرأة، وتوجيه وقتها للمنصَّات الاجتماعيَّة، أو ما يظهر من بعض الظواهر كالنسويَّة وارتفاع مؤشِّرات الطلاق والخُلع والمرافعات القانونيَّة بَيْنَ الأزواج لأتفَه الأسباب وغيرها من المقلقات الَّتي باتتْ تهدِّد مسار الحياة الزوجيَّة، بالشكل الَّذي يَضْمن الحفاظ على الترابط الأُسري وقدسيَّة الزواج واحترام كلا الزوجين لمسؤوليَّاته الزوجيَّة نَحْوَ الآخر والوفاء بالتزاماته في إطار من الثقة والحقِّ والعدل والمسؤوليَّة والمشاركة، وتشجيع الأُسرة على صناعة البدائل، والاستثمار في الموارد والممكنات والقدرات والمواهب؛ لِتصبحَ أُسرة منتجة، قادرة على الاعتماد على الذَّات واستثمار الفرص، مع التأكيد على أهميَّة توفير بدائل وخيارات واسعة، واستراتيجيَّات دعم ومساندة، وأدوات تشخيص وتحليل مقننة لضبط المسار وتقليل المخاطر على وحدة النسيج الأُسري وكفاءة مُكوِّناته. على أن يتولى هذا العمل كفاءات وطنيَّة تمتلك تجارب واقعيَّة، ورصيدًا من الخبرات الواسعة في إنتاج البدائل، وتمكين الفرص، وبناء موجِّهات التغيير، ومهارات التأثير والاتصال والتواصل والتفاعل والإلهام والحدس.
ثالثًا: الحماية الاجتماعيَّة ومراجعة برامج الاستحقاقات ومستجدَّات التنفيذ
تُشكِّل منظومة الحماية الاجتماعيَّة استحقاقًا عمليًّا لأولويَّة الرَّفاه والحماية الاجتماعيَّة، في ظل ما طرحته من منافع وبرامج وفرص وتوجُّهات وأُطر تتواكب مع احتياجات المواطن العُماني منذ مراحله العمريَّة الأولى، آخذة في الاعتبار طبيعة وظروف كُلِّ مرحلة عمريَّة، وما قد يطرأ عليها من تغيُّرات أو ظروف طبيعيَّة أو عارضة.
وتأتي هذه المنظومة في إطار يتكامل فيه الاستحقاق لِيصلَ إلى سلَّم العدالة وتكافؤ الفرص بَيْنَ المواطنين، مع استنطاق القِيَم والهُوِيَّة العُمانيَّة، من خلال تعظيم المكاسب الفرديَّة والجماعيَّة الناتجة عن المنافع النقديَّة والبرامج التأمينيَّة الَّتي التزمت بها منظومة الحماية الاجتماعيَّة، والَّتي جاءت معبِّرة عن الواقع، ومشخِّصة للظروف والمتغيِّرات، وموضحة لبعض الحلول للتحدِّيات والمُشْكلات الَّتي أفرزتها المتغيرات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وألقتْ بظلالها على حياة الفرد والأُسرة والمُجتمع.
كما تسهم المنظومة في الوقوف على احتياجات الأُسرة العُمانيَّة من الضرورات الحياتيَّة الَّتي لا غنى عنها، وقراءة مستوى التناغم والتكامل في إيصال الأُسرة واستحقاقاتها إلى مرحلة القوَّة، وتشخيص التحوُّلات الَّتي تعيشها الأُسرة العُمانيَّة، والظروف الَّتي تعمل فيها، ومتطلبات كُلِّ مرحلة من البرامج التثقيفيَّة والتوعويَّة والإعلاميَّة والتعليميَّة وغيرها، لمساعدة الأُسرة على مواجهة الظروف، والحدِّ من تأثيرها على كيان البيت الأُسري الواحد.
على أنَّ المعطيات الحاصلة والمراجعات المفترضة لبعض المنافع في منظومة الحماية الاجتماعيَّة تؤكد الحاجة إلى التفكير خارج الصندوق والوقوف الجادِّ على التحوُّلات الَّتي فرضت نفسها على واقع الأُسرة العُمانيَّة، والَّتي لم يَعُد التعامل معها خيارًا مزاجيًّا مرتبطًا بقدرة ربِّ الأُسرة أو امتلاكه الممكنات الداعمة للمعالجة، أو ترك الأُسرة تتخبط في مواجهة هذه الأحداث بحثًا عن مسار آمن، أو أن تستغيث بما تعيشه من ظروف، أو بما تحتاجه من دعم، أو بما تراهن عليه من أجْل مستقبل أبنائها؛ إذ إنَّ ذلك قد يفضي إلى تفاوتات بَيْنَ الأُسر في قدرتها على التكيُّف مع الواقع، وسَبر أغواره، ومستوى امتلاكها لأدوات الثبات والقوَّة أمام موجات التغيير، ما يستدعي إعادة قراءة ملف منفعة الأُسرة بشكلٍ أكثر عُمقًا واحتواءً وتحفيزًا، ومن ذلك إضافة منفعة الأُمومة (الأُم المُربِّية)؛ كونها أحد هذه المكنات الَّتي سترفع من سقف التوقُّعات النوعيَّة للاحتواء الأُسري، وتعزِّز من الدَّوْر المحوري للأُم في تعظيم القِيمة المضافة لهذا الاستحقاق.
أخيرًا، تبقى مسؤوليَّة الحفاظ على أعلى درجات التوازن الأُسري في التعامل مع هذه المرتكزات مرهونًا بتفاعل الأُطر وكفاءة التشريعات وتكامل الجهود وتعظيم درجة الاستحقاقات والحوافز للأُسرة حفاظًا على الكيان الأُسري ودَوْر الوالديَّة في حماية النسيج العائلي.
د.رجب بن علي العويسي