الاثنين 15 ديسمبر 2025 م - 24 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

حين يصبح التضامن اختبارا لصدق العالم

حين يصبح التضامن اختبارا لصدق العالم
الاثنين - 15 ديسمبر 2025 09:00 ص

إبراهيم بدوي

يطل علينا يوم التضامن العالمي مع الشَّعب الفلسطيني كُلَّ عام كمرآة كاشفة لضمير العالم، حيثُ تتكدس البيانات، وترتفع الأصوات، وتمتلئ الساحات بالرايات، في مشهد إنساني واسع لا يُمكِن إنكاره، ورغم تنامي التعاطف الَّذي يعكس تحوُّلًا مهمًّا في الوعي الدولي. فالرواية الفلسطينيَّة خرجت من هامش الدفاع إلى مركز النقاش العام، ونجحت في كسر كثير من الأساطير الَّتي نسجها الكيان الصهيوني الغاصب لعقود طويلة، إلَّا أنَّ التضامن لا يزال بعيدًا عن إحداث الأثر المرجو، فالقِيمة السياسيَّة لأيِّ تضامن تقاس بقدرته على إحداث أثر ملموس، لا بحجمه الرمزي وحده، وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل بات هذا التضامن قوَّة ضغط حقيقيَّة؟ أم ظل مساحة أخلاقيَّة مريحة تتيح للعالم التعبير عن التعاطف دون تحمّل تبعاته؟ فالتجربة الفلسطينيَّة تؤكد أنَّ التعاطف ـ مهما بلغ اتساعه ـ يظل محدود الأثر حين ينفصل عن أدوات الفعل السياسي والاقتصادي والإعلامي المنظم. فالعالم الَّذي يصفق للضحايا، ويغض الطرف عن الجناة، يشارك في إطالة أمد الجريمة بصيغة ناعمة، وهو ما يحول يوم التضامن من مناسبة احتفاليَّة إلى اختبار حقيقي لمدى استعداد المُجتمع الدولي للانتقال من الإدانة اللفظيَّة إلى فرض كلفة واضحة على مشروع استعماري يقوم على القوَّة والعنف وازدواجيَّة المعايير.

يكشف المشهد الفلسطيني، خصوصًا بعد حرب إبادة غزة، فشل النظام الدولي أكثر من أيِّ وقت مضى، فرغم التضامن الظاهري، والتقارير الَّتي ترصد الجرم، تتوالى المجازر، وتتكدس الأدلة، وتتكرر الإدانات، فيما تبقى المحاسبة غائبة، وكأنَّ العدالة الدوليَّة تعمل بنظام انتقائي يخضع لموازين القوَّة لا لميزان الحقِّ. فهذا الغياب المستمر للفعل الدولي لم يَعُد قابلًا للتفسير بوصفه تقصيرًا إجرائيًّا أو عجزًا مؤقتًا، إذ تحوَّل إلى سلوك بنيوي يعكس طبيعة نظام صمم لحماية الأقوياء وضبط الضعفاء، وفي الحالة الفلسطينيَّة يظهر القانون الدولي كوثيقة أخلاقيَّة بلا أنياب، تستدعى عند الحاجة الخطابيَّة وتعطَّل عند لحظة الاختبار الحقيقي، فازدواجيَّة المعايير أصبحت الإطار الحاكم لكُلِّ تفاعل دولي مع الجرائم الصهيونيَّة المرتكبة بحق الفلسطينيين، من غزَّة إلى القدس إلى مدن الضفة الغربيَّة، فهذا الواقع يفرض قراءة أكثر واقعيَّة، قراءة تدرك أنَّ الرهان على عدالة دوليَّة منفصلة عن القوَّة رهان خاسر، وأنَّ النظام العالمي بصيغته الحاليَّة يتعامل مع فلسطين؛ باعتبارها عبئًا أخلاقيًّا لا قضيَّة تستوجب إعادة توازن، لتتحول القضيَّة الفلسطينيَّة إلى شهادة إدانة مفتوحة لبنية عالم يدَّعي القِيَم ويدير ظهره للضحايا حين تمس العدالة مصالحه.

عندما أفكر في القدس، لا أراها بوصفها عنوانًا سياسيًّا أو بندًا تفاوضيًّا مؤجلًا كما يروّج له عالميًّا، فكُلُّ منصف يَجِبُ أن يراها اختبارًا يوميًّا لمعنى البقاء نفسه، ففي هذه المدينة الصمود لا يرفع كشعار، ولا يُستدعى في المناسبات، الصمود هناك يعاش كخيار حياة، كفعل واعٍ يتجدد كُلَّ صباح مع فتح متجر، أو بقاء عائلة في بيت مهدَّد، أو صلاة تؤدى تحت عيون الاقتحام، وقطعان المستوطنين المدنسين لثالث الحرمين، ما يحدث في القدس يكشف أنَّ المعركة الحقيقيَّة تَدُور حَوْلَ الإنسان قبل الأرض، وحَوْلَ الذاكرة قَبل الجغرافيا، وحَوْلَ الإرادة قَبل الخرائط، لذا فمحاولات التهجير والتهويد المستمرة لم تفشل بسبب قرارات دوليَّة أو بيانات شجب، فشلت لأنَّ المقدسي اختار أن يكُونَ جزءًا من المكان لا عابرًا فيه. هذا الوجود المتراكم، الهادئ، العنيد، هو أخطر ما يواجهه المشروع الصهيوني؛ لأنَّه يقوض منطقه من الداخل، ويكشف أنَّ السيطرة الأمنيَّة لا تنتج سيادة، وأنَّ القوَّة العسكريَّة لا تصنع شرعيَّة. في القدس كما في غزَّة ومدن الضفة، يتحول البقاء إلى استراتيجيَّة، ويتحول الزمن إلى حليف، ويصبح الإنسان نفسه خط الدفاع الأول والأخير، ليبرز الصمود كسياسة طويلة النفَس، لا كحالة وجدانيَّة عابرة، سياسة تبني نفسها يومًا بعد يوم، خارج ضجيج المؤتمرات، وداخل تفاصيل الحياة الَّتي يصر الفلسطينيون على انتزاعها من بَيْنِ أنياب القهر.

أكتب هذا وأنا مدرك أنَّ فلسطين تعلّمني كُلَّ مرَّة درسًا جديدًا في الواقعيَّة الأخلاقيَّة، فالحق واضح كالشمس، غير أنَّ الشمس وحدها لا تغيِّر الطقس السياسي. ما أراه اليوم أنَّ المعركة دخلت مرحلة أكثر تعقيدًا وصدقًا، مرحلة تفرض الجمع بَيْنَ الإيمان بالعدالة وبناء أدواتها، بَيْنَ الصمود اليومي وصناعة الكلفة، بَيْنَ الرواية والقرار، فالدولة الفلسطينيَّة تقترب بقدر ما نقترب من تحويل التضامن إلى ضغط، والصبر إلى تنظيم، والغضب إلى مسار طويل النفَس، والكيان الصهيوني الغاصب يعيش على إدارة الوقت، فيما الفلسطيني يراكم الزمن لصالحه، وهذه معادلة لا تهزم بالصوت العالي وحده، لكنَّها تهزم حين تتغير موازين الفعل، لذا فرهاني الشخصي يظل على الإنسان الَّذي يثبت في مكانه، وعلى وعي عالمي يتعلم ببطء، وعلى حقيقة بسيطة تقول إنَّ المشاريع الَّتي تقوم على العنف وازدواجيَّة المعايير تستنزف من داخلها. في النهاية، فلسطين لا تطلب شفقة، تطلب شراكة في تحمل الكلفة، وحين تفرض الكلفة، يبدأ العد التنازلي لأيِّ استعمار مهما طال عمره.

إبراهيم بدوي

[email protected]