الاثنين 15 ديسمبر 2025 م - 24 جمادى الآخرة 1447 هـ
أخبار عاجلة

رأي الوطن : الدم الفلسطيني مستمر مع غياب العدالة

الاثنين - 15 ديسمبر 2025 04:10 م

رأي الوطن

10

يستمرُّ الدَّم الفلسطيني في التدفُّق خلال اليومين الماضيين، لِيعُودَ إلى صدارة المشهد بوصفِه اللُّغة الَّتي يصرُّ الكيان الصُّهيوني الغاصب على استخدامها في إدارة الصِّراع مع شَعب أعْزَل، لا يرتكب جرمًا سوى المطالبة بحقِّه الطبيعي في الحياة والحُريَّة. فغارات جويَّة على قِطاع غزَّة، وعمليَّات قتل ميداني في الضفَّة الغربيَّة، واقتحامات متزامنة للمُدُن والمُخيَّمات، صورة واحدة متعدِّدة الوجوه عنوانها استخدام القوَّة العارية كأداة حُكم وإدارة. وفي هذا الحيِّز الزَّمني الضيِّق سقط شهداء، وامتلأتِ المستشفيات بالجرحى، وتحوَّلتِ البيوت إلى أهداف مفتوحة، بَيْنَما وجَدَ المَدَني الفلسطيني نَفْسه محاصَرًا بَيْنَ نيران الطَّائرات واعتداءات المستوطنين، في مشهدٍ يخلو من أيِّ احترام لقواعد إنسانيَّة أو مواثيق دوليَّة. إنَّ ما يجري يعكس نمطًا متكررًا بإيقاع محسوب، حيثُ يتحول القتل إلى رسالة سياسيَّة، ويتحول الصَّمْت الدّولي إلى عنصر ضِمن المعادلة، هكذا تتضح الصورة بلا مواربة، هناك سياسة منظَّمة تستهدف إنهاك المُجتمع الفلسطيني عَبْرَ استنزاف يومي، وإعادة تعريف وجوده كحالة طوارئ مستمرَّة، في اختبار جديد لضمير عالم يراقب الدَّم وهو يَسيل ثمَّ يكتفي بتدوين الملاحظات.

إنَّ ما يجري على الأرض يتجاوز توصيفه كتصعيد أمني أو ردود فعل عسكريَّة، فهو مسار متكامل تُدار فيه القوَّة بوصفها أداةً سياسيَّة لإعادة هندسة الواقع الفلسطيني بالقهر والخوف. فالاستهداف المتكرر للمَدَنيين وتدمير البيوت وتحويل المستشفيات إلى ساحات ضغط غير مباشر، جميعها عناصر تصبُّ في هدف واحد واضح لا لبس فيه، وهو إنهاك المُجتمع من الدَّاخل، وكسر قدرته على الاستمرار الطَّبيعي. في هذا السِّياق، يتحول الجسد الفلسطيني إلى ساحة صراع مفتوحة، وتغدو الحياة اليوميَّة فِعلَ مقاومةٍ بحدِّ ذاته، حيثُ يذهب الطِّفل إلى مدرسته تحت احتمال القصف، ويخرج العامل من بيته وهو يُدرك أنَّ العودةَ غير مضمونة.. تلك المعادلة القاسية تفضح زيف الخِطاب الَّذي يحاول فصل السِّياسة عن الإنسان، فكُلُّ رصاصة وكُلُّ غارة تحمل رسالة أبعد من لحظتها، رسالة تقول إنَّ الوجود الفلسطيني ذاته موضوع للمساومة، هكذا يتشكل مشهد إنساني بالغ القسوة، وفي الوقت نَفْسه بالغ الوضوح، حيثُ تتعرَّى السِّياسة حين تفقد أيَّ غطاء أخلاقي.

واضح أنَّ الهدنة أوقفتِ الإجراءات القضائيَّة الَّتي تُطارد الإجرام الصُّهيوني فقط، ولم توقفِ الإجرام المتواصل في حدِّ ذاته. فهناك مطلوبون للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة يجوبون العالم بحُريَّة كاملة، يُلقون الخُطَب، ويصافحون المسؤولين، ويتحركون تحت أضواء الكاميرات دُونَ أنْ تجرؤ أيُّ دَولة على تنفيذ ما يُفترض أنَّه التزام قانوني دولي، في الوقت الَّذي يُقتل فيه قادة المقاوَمة بدمٍ بارد، ويُلاحَق الفلسطيني لأنَّه قرَّر الدِّفاع عن وجوده.. هذا الخلل الصَّارخ يكشف أنَّ العدالة الدوليَّة تعمل بآليَّة انتقائيَّة، حيثُ تتحول القوانين إلى أدوات ضغط على الضعفاء، وتفقد معناها عِندَما تقترب من مراكز القوَّة. فالهدنة هنا لم تكُنْ سوى استراحة سياسيَّة أعادتْ ترتيب المشهد، ومنحتِ القتَلَة حصانةً زمنيَّة إضافيَّة، بَيْنَما بقي الفلسطيني وحده في مواجهة آلة القتل دُونَ غطاء قانوني فعلي. إنَّ استمرار هذا النَّهج لا يعني فقط فشل العدالة، وإنَّما يعني تحويلها إلى جزء من الأزمة، وشريك غير مباشر في إعادة إنتاج العنف، وإطالة عمر الجريمة، وترسيخ قناعة خطيرة مفادها أنَّ الدَّم الفلسطيني مستباح طالَما ظلَّ ميزان القوَّة مختلًّا.

إنَّ استمرار العجز أمام هذا الواقع هو ضرب من الوَهْمِ، حيثُ تتحول الدَّعوات الأخلاقيَّة غير المسنودة بأدوات ضغط إلى طقوس تبرِّئ ضمير العالم أكثر ممَّا تحمي الضَّحايا، فالتَّجربة الفلسطينيَّة الطَّويلة تقول إنَّ العدالة لا تهبط من السَّماء، ويَجِبُ أنْ يدركَ القاتل أنَّ الاستمرار لم يَعُدْ مجانيًّا، يَجِبُ نقل القضيَّة من مربَّع الإدانة اللفظيَّة إلى ساحة الفعل السِّياسي والقانوني والاقتصادي، حيثُ يُصبح الصَّمْت مكلفًا، والانحياز مكشوفًا، والتَّواطؤ موثَّقًا. هذا هو الامتحان الحقيقي للنِّظام الدّولي، إمَّا أنْ يستعيدَ معنى القانون بوصفه حماية للإنسان، أو يعلنَ إفلاسه الأخلاقي صراحةً. باختصار يَجِبُ يتحمل المُجتمع الدّولي مسؤوليَّته، أو أنْ يعترفَ علنًا بأنَّ العدالة، كما تُدار اليوم، اختيارٌ سياسي لا قِيمة إنسانيَّة.